في خضم التطورات الدراماتيكية التي طاولت الساحة اللبنانية في الأسابيع الأخيرة تبرز جملة من التقلبات التي تشبه الإنقلابات، أسفرت عن تبدل في المواقع، لعل أبرزها تلك التي طاولت جملة من المواقع السياسية الأساسية في البلاد وأهمها تلك المتمثلة بموقعي 8 آذار و14 آذار.
نبدأ فنحصر الكلام بموقع 14 آذار الذي تغيّرت سحنة تركيبته ومزاجه العام بعيد مبادرة الرئيس الحريري بترشيح الوزير فرنجية لموقع الرئاسة، وكان هذا الترشيح السبب الظاهر لكل تلك الإجتماعات التي حصلت ما بين القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر وأسفرت عن بيان تفاهم تم ما بين قيادتيهما تناول نقاط التلاقي المشتركة، وتم الإتفاق على الإلتزام بها، وأغفل نقاط التباعد في نهجهما السياسي الذي أرخى بستائره على جملة من الأمور السيادية بل المصيرية، وفي طليعتها علاقة التيار الوطني الحر بحزب الله ومن خلاله بإيران، وتوجهاتها المنتمية إلى عقيدة ولاية الفقيه، إضافة إلى قضيتين أساسيتين متمثلتين بسلاح حزب الله والإنخراط في الحرب السورية إلى درجة المشاركة الفاعلة في نقاط القتال الدائرة على مجمل أراضيها ومدنها، القريب منها والبعيد.
وكان واضحاً أن أهم النقاط التي تم عليها التوافق، تمثلت في الرغبة المعلنة بإزالة أسباب الخلافات الشديدة ما بينهما والتي أدت إلى نزاعات عسكرية وسياسية حادة على الساحة المسيحية، من هنا كان الشعار الأساسي المعلن لهذا التوافق متمثلا بشعار رئيسي تكفل الفريقان المتوافقان برفعه، وهو، وحدة الصف المسيحي، وكانت الحصيلة الأساسية لهذا التطور السريع، قيام القوات اللبنانية بترشيح العماد عون لرئاسة الجمهورية، وبات ترشيح العماد، ترشيحاً مسيحياً موحداً ضمّ إليه كُلاً من التيار والقوات.
كل هذه التحولات في التوجهات القواتية، طفت على الساحة اللبنانية بعد ترشيح الرئيس الحريري للوزير فرنجية، وكان هدفه من هذا الترشيح، بذل الجهد لإنهاء وضعية الفراغ الرئاسي، ذلك الفراغ الذي وضع البلاد أمام جملة من المخاطر السياسية والأمنية والإقتصادية، تهاوت قدرات اللبنانيين ساسة وقادة ومواطنين أمامها، فلم تعد قادرة على تحمّلها والتأقلم مع تبعاتها.
حصيلة هذا الترشيح لم تتماشى فيها حسابات الحقل مع حسابات البيدر، رغم عملية التحريك التي طاولت الساحة الرئاسية، حيث أن جملة من الزوابع والأعاصير طاولت، ساحة 14 آذار، وعقّدت الحلول المنتظرة من المبادرة، وتبين للجميع أن ما يحول دون حصول الإنتخابات الرئاسية إنما هو نابع من الموقف الإيراني (ومن خلاله موقف حزب الله)، والذي اعتبر أن الوضع القائم هو الوضع الأصح والأكثر ملاءمة، وأن القطاف لم يحن أوانه بعد نتيجة استمرار الأزمة السورية والطموح إلى قطف ثمارها. لم يستسلم الرئيس الحريري لما توصلت إليه الأحوال، وبصورة شبه مفاجئة أعلن عن إمكانية ترشيح العماد عون، الأمر الذي أعاد خلط الأوراق، وألهب جملة من الساحات بين مؤيدة ومعارضة، وأطلق جملة من المواقف التي كان يمكن أن تؤدي إلى ترشيح العماد عون، وعاد كثيرون إلى حسابات الأرباح والخسائر ضمن 14 آذار وخارجها، وفي إطار تيار المستقبل وضمن تناقضات الساحة السنية ومواقفها شديدة التحفظ على انتخاب الجنرال عون.
ومن بين الخسائر الحاصلة أن القوات اللبنانية، ومع ما تعلنه من تشبث بإنتمائها المستمر بموقع 14 آذار ونهجه الوطني وحرصها على العلاقة الجيدة بتيار المستقبل، إلاّ أن الملاحظة الرئيسية التي خلص إليها كثيرون، أن الدكتور جعجع بات يميل إلى توجيه الإهتمام الرئيسي لدى حزبه، إلى وحدة الصف المسيحي، بعد أن دفعه إلى هذا التوجه ترشيح الرئيس فرنجية، وبعد أن استشف أن ذلك سيكسبه مساحة شعبية أوسع، ومستقبلاً أكثر إشرافاً على موقع الريادة والقيادة المسيحيين، وقد أوغل في ذلك الخط المستجد على حساب كثير من مواقعه في الخط الوطني الشامل دون أن نذهب في هذه الملاحظة إلى حد القول بأن موقعه بعد علاقاته المستجدة بالعماد عون قد شوَّش على خطه الوطني الصلب الذي سبق أن لمسناه في أوائل علاقاته ب 14آذار ومكوناتها الإسلامية والمسيحية، بل أدخله في توجه جديد بعيد عن النكهة الوطنية الصافية التي كانت له قبل اتفاقية التفاهم العونية- القواتية، الأمر الذي طرح تساؤلات حول الحقيقة المستجدة المتعلقة بانتمائه إلى أجواء 14 آذار.
وقد وصلنا اليوم إلى هذا الوضع الجديد الذي دفع بأوساط العماد عون إلى التصريح بأنهم قد أصبحوا على أبواب الإنتصار، كما وصلنا إلى مواقع وطنية ما تزال حتى الآن متشبثة بموقفها الأساسي الرافض لترشيح الجنرال، كالرئيس بري والكتائب والوطنيين الأحرار.
كما وصلنا إلى وضعٍ طفت فيه على الساحة السنية جملة من المواقف المعترضة، مما بات يستوجب وقفة متأنية ومتبصرة وحكيمة، وفي طليعتها المواقف الشعبية السنية، تأخذ كل ما أوردناه أعلاه، بعين الإعتبار تحسباً لنتائج غير مطمئنة قد تطاول ساحاتنا من قريب ومن بعيد.