Site icon IMLebanon

التحليق فوق سوريا: الدلالات والأثمان

 

يرسم حطام الطائرات الروسية والتركية والإسرائيلية فوق سوريا في كلّ مرة نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة، ويرسي قواعد اشتباك جديدة وتوازن قوى جديد. ولا يخرج إسقاط مقاتلة سوخوي الروسية بنيران قوات الدفاع الجوية التركية في 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2015 عن هذا السياق. إسقاط تلك الطائرة أتى بعد أقل من شهرين على التدخل الروسي المباشر في الحرب السورية (3 أيلول/سبتمبر)، وشكّل مؤشراً لاستحالة التعايش بين روسيا وتركيا المتموضعتين في موقعين متقابلين من النظام السوري. القطيعة الروسية التركية التي تسببت بها الحادثة امتدت حتى حزيران 2016 رضخت بعدها تركيا للشروط الروسية، وقبلت مُكرهة بحصريّة روسية للأجواء السورية، وتخلت عن طريق الكاستيللو بعد أقل من شهر، لتسقط حلب بيدّ النظام في شهر ديسمبر، مشكّلة بداية لمرحلة جديدة في المشهد السوري عسكرياً وسياسياً. مرحلة بدأت بـ«إعلان موسكو» وأعادت رسم خارطة الحل وفق منطق روسيا التي أنقذت نظام بشار الأسد من الانهيار، ولتنتقل بعدها أنقرة الى راع لمحادثات أستّانا  الى جانب روسيا وتركيا في 23 و24 يناير 2017.

القصف الإسرائيلي للعمق السوري ليس بجديد، فمنذ العام 2013 تكرر على أكثر من مئة هدف، قالت إسرائيل أنّها مخازن لأسلحة ومنشآت لتطوير الصواريخ وقوافل إيرانية. وقد استمر النشاط الجوي الإسرائيلي بعد دخول القوات الروسية الى الميدان. أتاحت السيطرة الروسية على المجال الجوي السوري والتحكم بإطلاق الدفاعات الجوية الصاروخية لإسرائيل، اختيار الأهداف في العمق السوري ومعالجتها على طريقتها. وبالإضافة الى ذلك قادت روسيا مسعى مع النظام السوري لإنشاء منطقة على الحدود الشمالية لإسرائيل بعمق 40 كلم خالية من أي وجود لميليشيات إيرانية. الأمن الإسرائيلي كان أحد الالتزامات الروسية التي جرى التأكيد عليها وربما شكّل التقاطع الوحيد مع المصالح الأميركية التي اختلفت أولوياتها مع إدارة الرئيس دونالد ترامب.

ما الذي تغيّر في العاشر من شباط ولماذا سمحت موسكو بإطلاق منظومة الصواريخ S-200 القادرة على إسقاط الطائرات الإسرائيلية؟ وهل في هذا رسالة الى إسرائيل أم الى الولايات المتّحدة؟ ثم لماذا سارعت إيران الى التنصّل من إطلاقها طائرة الاستطلاع دون طيار والقول أنّ هذا محض افتراء، كما سارع المتحدث باسم لجنة الأمن القومي والسياسات الخارجية في البرلمان الإيراني الى التأكيد أنّ سوريا هي من أسقط المقاتلة الإسرائيلية؟

لا بدّ من التوقف عند جملة من الإخفاقات الروسية الميدانية والدبلوماسية التي تتالت بوتيرة شبه يومية وربما شكّلت أكثر من دلالة على أنّ هناك قرارا أميركيا بالتضييق على روسيا، ورفع كلفة وجودها العسكري والسياسي في سوريا وضرب مصداقيتها مع دول الجوار تمهيداً لانتزاع مكاسبها وإخراجها من المعادلة:

1- فشل مؤتمر سوتشي في 2 شباط/ فبراير في جمع مختلف الأطراف السورية لتحقيق غايته المعلنة، إجراء «حوار وطني سوري»، على الرغم من التحضيرات المسبقة والدعاية الإعلامية التي رافقته. المبعوث الدولي ستيفان دي مستورا قاطع الجلسة الافتتاحية وقاطعته المعارضة  من مجالس محليّة وهيئات مجتمع مدني، ومختلف التنظيمات السياسية والفصائل المسلحة المعارضة، كما تخلل المؤتمر خلافات مع الوفد التركي. مما وضع مستقبل مقررات سوتشي ومستقبل المبادرات الروسية في مهب الريح.

2- المحاولات الميدانية لروسيا وقوات النظام لتغيير ميزان القوى في إدلب وفي الشمال السوري، في المنطقة الواقعة تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية. في إدلب استعان النظام بوحدات من داعش تمّ نقلها من جنوب دمشق لقتال الجيش السوري الحر الذي استضافت واشنطن وفداً منه وأرست معه تحالفاً يشبه الى حدّ كبير الاتفاق مع الكرد. قوات داعش تمكّنت من تحقيق إنجازات ميدانية على حساب الجيش الحرّ بدعم من الطيران الروسي الذي استُخدم بشكل مستمر وبطريقة غير مبرّرة. إسقاط الطائرة الروسية في 3 شباط/فبراير خلال قصف مواقع المعارضة السورية في إدلب بصاروخ مضاد للطائرات «مجهول المصدر» يرفع من الشكوك الروسية بوقوف الولايات المتّحدة وراء السماح باستعمال هذا النوع من الأسلحة.

3- فشل هجوم قوات النظام وحلفائه في اختراق منطقة النفوذ الأميركية وسقوط أكثر من مئة قتيل في صفوفهم في 7 شباط بضربة جوية من قوات التحالف لدى محاولتها مهاجمة قوات سوريا الديمقراطية في شرق الفرات. فشلت تركيا كذلك في اختراق المنطقة عينها بالرغم من محاولاتها التماس ضوء أخضر أميركي لإبعاد شبح الإدارة الذاتية الكردية، واقتصرت محاولاتها الميدانية على التوغّل لبضعة كيلومترات داخل الحدود السورية، تخللتها مفاجآت ميدانية كان آخرها إسقاط المروحية التركية يوم السبت الفائت في 9 شباط/فبراير بعد تدمير عدد من الدبابات التركية بأسلحة غير متوقّعة.

لا بدّ أنّ موسكو المثقّلة بشريكين لا يمكن الدفاع عنهما أمام الولايات المتّحدة، إيران والنظام السوري، تستشعر نوعاً من انسداد الأفق الميداني والسياسي. مناطق خفض التوتر التي أرستها مؤتمرات أستانة لم يصمد منها سوى المنطقة الجنوبية التي تكرس سيطرة أميركية على مثلث الحدود الأردنية السورية العراقية. أما ما تبقى منها في إدلب والغوطة فأضحت مناطق استنزاف للجهد العسكري والسياسي. إسقاط طائرة ف – 16 الإسرائيلية كان رسالة روسية واضحة للولايات المتّحدة بأنّها أُحرجت لدرجة التنصّل من التفاهمات الجويّة المعقودة مع إسرائيل. الولايات المتّحدة الراغبة في شراكة مع روسيا نجحت في رفع كلفة هذه الشراكة، وموسكو بدورها المتمسّكة بما حققته ربما تحاول دراسة جدوى الاستمرار بتحمّل شريكيها المرتفعي الكلفة وبكيفية ترشيق هذه الشراكة.

دبلوماسية إسقاط الطائرات أضحت أسلوباً معتمداً في التخاطب بين روسيا والولايات المتّحدة، وهي نذير بتجاوز أحد اللاعبين الخطوط الحمراء الموضوعة من قِبل اللاعب الآخر. التنصل الإيراني من المسؤولية عن إطلاق الطائرة دون طيار فوق الأراضي المحتلّة والقول أنّ هذا محض افتراء يتسّق مع الرواية الإسرائيلية التي تقول أنّ إسرائيل غير راغبة في التصعيد، مما ينقل الحدث من بُعده الإقليمي المحدود ليُدرجه في سياق مصالح القوى العظمى. حدود المكاسب الميدانية بين اللاعبين المحليين والإقليميين والحدود المتاحة لاستعمال السلاح الكيماوي كانت تُرسم سابقاً بدماء الشعب السوري، أما ترسيم الحدود بين الكبار فيتمّ بإسقاط الطائرات.