أن تكون الدولة في هذه الحالة من الهريان والتضعضع، فالأمر معروف، ومُسلّم به من القريب والبعيد، قياساً على مظاهر الضعف التي تحيط بالسلطة، وتحاصر مواقع القرار فيها.
أما أن تبدو الدولة في حالة من الذعر والإرباك، من حركة سياسية وليدة، دعت لمؤتمر للإعلان عن ميثاقها الوطني، ونهجها السياسي، فمسألة تستحق التوقف ملياً، للتمعّن بأبعاد مثل هذه الحركة القمعية، التي خيّل لكثير من اللبنانيين، بأنها أصبحت من الماضي، لأن لبنان رفض الدولة البوليسية في ذروة انتشار مثل هذه الأنظمة، في فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.
القصة ببساطة، واختصار كلّي، أن الأمين العام السابق لجبهة «١٤ آذار» الدكتور فارس سعيد، والمُفكّر الأكاديمي الدكتور رضوان السيّد، يعملان على إطلاق حركة سياسية وفكرية لإحياء المبادئ السيادية والديموقراطية التي قامت عليها حركة «١٤ آذار»، وبعد اجتماعات ونقاشات مع نخب جامعية واجتماعية ومدنية، تم التوافق على إطلاق اسم «المبادرة الوطنية» على الحركة الجديدة، والتي عَقدت أحد اجتماعاتها في فندق «مونرو» بالذات، نظراً لموقعه الوسطي في قلب العاصمة، ولسهولة الوصول إليه من مختلف المناطق والضواحي.
تم الإعلان عن الاجتماع منذ حوالى الأسبوعين، ووجهت الدعوات للمشاركين منذ أكثر من أسبوع، وطبعاً تم التعاقد مع إدارة الفندق، واتخاذ الترتيبات اللازمة قبل أيام من موعد انعقاد المؤتمر. ولكن فجأة، ومن دون سابق إنذار، أبلغت إدارة الفندق المسؤولين عن تنظيم المؤتمر، عن عدم التمكن من القيام بتعهداتها، لـ«أسباب أمنية»، وبحجة أن الفندق لا يستضيف نشاطات سياسية أو حزبية، لأنه مُلك المؤسسة العسكرية… كذا إلى آخره!
لعلها هذه هي المرة الأولى منذ خروج الجيش السوري، وانتهاء عهد الوصاية السورية، التي يتم فيها منع حركة سياسية من الاجتماع والإعلان عن مبادئها وأهدافها السياسية السلمية، بأسلوب يُعيد إلى الأذهان بعض ممارسات «المكتب الثاني» إبان العهد الشهابي، والتي أساءت إلى الرئيس فؤاد شهاب وإنجازاته في بناء مؤسسات الدولة الحديثة.
ولا شك أن إقدام أحد الأجهزة الأمنية على قمع مثل هذا الاجتماع، ومنعه من الانعقاد، قد أساء كثيراً إلى العهد، وإلى الرئيس ميشال عون، الذي يؤكد في كل مناسبة، حرصه على الممارسة الديموقراطية، وعلى حماية حرية الرأي والتعبير، وحق كل طرف سياسي في التعبير عن مواقفه تحت سقف القانون، وفي إطار مراعاة مبادئ العيش المشترك، وبنود الميثاق الوطني.
الواقع أن التدبير الأمني المفاجئ، قد خدم أصحاب «المبادرة الوطنية» وأنصارها، لأنه أحدث ضجة سياسية وإعلامية، أكبر من تلك التي كان سيثيرها المؤتمر في حال تم انعقاده في أجواء عادية، لأن المشاركين فيه سيكتفون بالاستماع إلى البيان التأسيسي، ويناقشون بعض ما ورد فيه، والانصراف بهدوء، من دون أي ضجة في الشارع، وطبعاً بعيداً عن تظاهرات «طلعت ريحتكم»، وبلا أية عراضات بالدراجات النارية، أو حرق الدواليب في الشوارع!
ولكن يبدو أن لغة العقل والفكر ليست مرغوبة، في زمن المزايدات والخطابات النارية، وأساليب شدّ العصب الغوغائية، عشية المعارك الانتخابية!
كل ذلك يعني أن الدولة بلغت من الضعف والوهن، أصبحت معها الممارسة الديموقراطية بمثابة «فوبيا» تسبّب القلق لبعض الأجهزة والمسؤولين!