IMLebanon

«العهد الآتي»؛ المسيحية المشرقية المقاومة

من المؤسف أن يقوم بابا الفاتيكان، فرنسيس، بزيارة إلى تركيا في ظل التحالف الصريح بين أنقرة والفاشية الدينية. الأسوأ أن هذه الزيارة المستهجنة، تأتي بعدما أعلن البابا أن باب الحوار مع «داعش»، مفتوح!

وبينما كان البابا يستجدي أمام عدويّ الإنسانية، أردوغان ــــ البغدادي، كانت ميليشيات الموت التابعة لهما، تنطلق، من داخل الأراضي التركية، في محاولة لإطباق الحصار على عين العرب، وإسقاطها، ما يفتح الباب أمام مجزرة للكرد السوريين؛ وفي منطقة أخرى من شمالي سوريا، حيث بلدتا نبّل والزهراء الشيعيتين، كان مجرمو «النصرة» يشنون هجوماً واسعاً على البلدتين المحاصرتين النازفتين حتى الإعياء والبطولة.

شرط الحوار هو الاعتراف المتبادل؛ لكن الفاشية الدينية تقوم، أساساً، على انكار حق الحياة ــــ وليس فقط حق الوجود ــــ لكل متّبعي الأديان والطوائف والمذاهب الأخرى، ولكلّ مَن لا يقبل بشريعة قطع الرؤوس والأيدي والسحل والعبودية والجزية والتطهير الديني والثقافي والعرقي، والخضوع الكامل لسلطة مجرمين قرروا أنهم يمثلون الله على الأرض.

وكأن البابا ــــ الذي يمنح بركاته للداعشي أردوغان ــــ لا يرى المشهد الدامي في سوريا والعراق، ولا يدرك أن المسؤول الأول عن هذا المشهد، ليس إلا مضيفه بالذات! هناك خلل ما في السياسة البابوية القائمة على تملّق الفاشيين؛ فهل يعتقد الفاتيكان حقا بأنه يستطيع، بوساطة المَلَق، انقاذ المسيحيين في المشرق، أم أن الكنيسة الكاثوليكية منخرطة في تغطية العلاقات الملتبسة المبهمة بين الغرب والفاشية الدينية، وإعادة انتاج ديكتاتورية الإخوان المسلمين في تركيا وسواها، بوصفها تيارا «معتدلاً»؟

في الإجابة، نتوقف عند ما سُمي إعلان عمان الصادر عن المؤتمر الثاني حول «المسيحيين العرب والربيع العربي» الذي عقده «مركز القدس للدّراسات السّياسيّة»، بتمويل من «مؤسّسة كونراد أديناور» و«دانميشن». وبطبيعة الحال، فإن جهات التمويل، مدعومة بنفوذ حلقة من رجال الدين، وجّهت الإعلان بالاتجاه السياسي «المطلوب»؛ فأولاً، خلا الإعلان من أي إدانة لإسرائيل التي كانت السبّاقة بتهجير المسيحيين العرب من فلسطين، ولم يربط بين السعي الصهيوني لإعلان إسرائيل دولة يهودية وتنامي الفاشية الدينية في المنطقة، كما لم يشر إلى العلاقة العلنية القائمة بين التكفيريين والاحتلال الإسرائيلي في الجولان السوري، وثانياً، ألحّ الإعلان على التمييز بين متطرفين و«معتدلين» في الإسلام السياسي اليميني، وثالثاً، وهنا مربط الفرس، رفض الإعلان أن يكون المسيحيون العرب، «ظهيراً للاستبداد» في إشارة واضحة إلى التأييد المسيحي العربي الواسع للدولة السورية وحلفائها، خصوصاً حزب الله.

ولعل القارئ قد أدرك أن المراد من هذه الوثيقة «المسيحية»، ليس سوى منح الشرعية للسياسات الغربية التي تسعى إلى تحييد الداعشية الصهيونية عن المعركة ضد الإرهاب، واللعب على حبال الإرهابيين «المعتدلين»، وأخيراً، الاستمرار في التحشيد ضد الدولة السورية ــــ التي تحارب الإرهاب قولاً وفعلاً منذ أربع سنوات ــــ وتعتبرها أغلبية مسيحيي المشرق، السدّ المنيع الذي يحول دون انهيار حضورهم التاريخي والثقافي والديني في المنطقة كلها.

لو كان البابا مؤمناً حقا بقضية المسيحيين العرب، لكان جاء إلى دمشق، وحاور الرئيس بشار الأسد، وبارك المقاتلين من الجيش العربي السوري وظهيره الشعبي وحلفائه؛ أولئك الذين قدّموا التضحيات الجسام للحفاظ على التعددية في سوريا، وصون المقدسات والثقافة المسيحية فيها. بدلاً من ذلك، ذهب البابا إلى عدوّ المسيحية الأول في الشرق الأوسط، رجب أردوغان، وفتح باب الحوار مع الإرهابيين.

لا يهتم الغرب الإمبريالي بمصير المسيحيين العرب، بل أن اليميني الأميركي، جون ماكين، يعتبر أن القضاء على الوجود المسيحي في المشرق، هو مجرد «نتيجة فرعية» للهدف الكبير المتمثل بإقامة الشرق الأوسط الأميركي ــــ الإسرائيلي؛ ولكن، انطلاقاً من هذا الهدف بالذات، بدأ القلق يدبّ في أوساط امبريالية وكنسية من اتساع نطاق تأييد المسيحيين العرب للدولة السورية وحزب الله ونهج المقاومة. وهو تطور بالغ الأهمية من حيث أنه يجدد الصلات التقليدية بين مسيحيي المشرق وحركة التحرر الوطني، ويصبّ الثقل المسيحي، الاجتماعي والثقافي والانساني، في نهر المقاومة الجارف، على أساس رؤية مسيحية جديدة ترفض الانكفاء القومي أو الكمون الطائفي أو الهجرة، وتؤكد، في المقابل، على شرعية المقاومة الفكرية والثقافية والمسلحة، سواء أفي مواجهة الصهاينة أم في مواجهة التكفيريين، متطرفين و«معتدلين».

المسيحي العربي المسالم، «الذمي»، الليبرالي، السائر وراء الإكليروس، متملّق الإسلام السياسي، المهووس بالهجرة… لم يعد بطل الزمان؛ يولد اليوم، من رحم النار السورية، بطل جديد، إنه المسيحي المشرقي المقاوم.