تطرح حملة وزير الصحة اللبناني وائل أبو فاعور أسئلة عديدة. بعض هذه الأسئلة إشكالي، وجميعها مهم وضروري في كل الأحوال.
لا بأس، في البداية، من التأكيد أن هذه المقالة تحاول النأي عن مقاربات كانت موسومة بالاتهامية والأفكار المسبقة. ولذلك نسجل للوزير أبو فاعور مبادرته ومثابرته المستمرتين واللتين أثمرتا كشف أوجه خلل مخيفة في واقع المنظومة الغذائية اللبنانية.
وهو خلل شبه شامل يطاول صحة اللبنانيين جميعهم تقريباً (وخصوصاً الفئات الفقيرة منهم)، كما يصيب، في الصميم، قطاعاً مهماً من القطاعات الإنتاجية الخدماتية، وهو قطاع السياحة الذي يمكن التعويل عليه كثيراً في حال تحولت السياحة إلى صناعة حقيقية تستثمر ما هو متوافر من الميزات القائمة في لبنان، وهي ميزات طبيعية ومناخية وصحية وتراثية وإعلامية وثقافية واجتماعية وخدماتية…
نسجل ايضاً دعم رئيس الحزب التقدمي لمبادرة الوزير ابو فاعور بما مكّن وزير الصحة من القول في «الجامعة الأميركية» منذ ايام، «وضعت حزبي في خدمة الوزارة والمواطن». من دون دعم رئيس الحزب التقدمي كان يمكن ان يقع للوزير ابو فاعور ما وقع للوزير شربل نحاس حين اضطر للاستقالة من حكومة الرئيس نجيب ميقاتي السابقة.
لا بأس من إضافة من نوع أن الوزير أبو فاعور قد اجتهد، قبل الآن، كي يكون صاحب علاقات واتصالات وأدوار لافتة، في المديين الداخلي وبعض العربي، ما جعله يحلّ سريعاً، في مقدمة مساعدي رئيس حزبه وفي طليعة الأسماء المتداولة في أكثر من ازمة ومسألة داخلية لبنانية (بتكليف ومتابعة من قبل جنبلاط بطبيعة الحال).
يمكن القول في ضوء ما تقدم ان الوزير أبو فاعور، إنّما ينطلق من رغبات إيجابية في التميُّز وترك بصمة في مجال عمله ومسؤولياته. هذا حق طبيعي له ولو كان في خلفية ذلك، أيضاً، محاولة لتعزيز موقع رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي في التوازنات السياسية واللبنانية، وكذلك صرف الأنظار عن صعوبات «الوسطية» الجنبلاطية في التعامل مع الانقسام الداخلي والإقليمي بشأن الأزمة السورية، وخصوصاً موقف التيار السياسي الجنبلاطي بين دروز سوريا من الصراع الضاري الدائر في سوريا وعليها منذ ما يقارب الاربع سنوات وحتى إشعار آخر… للأسف؟!
لكن (وهذه الـ«لكن» ضرورية للاستدراك الموضوعي وليس لممارسة هواية التشكيك وتكرار الأفكار المسبقة، كما ذكرنا آنفاً) التساؤل ضروري وطبيعي حول المدى الذي يمكن أن تصل إليه حملة الوزير أبو فاعور ضد الفساد الغذائي، وحول أسباب غياب وزارة الصحة والوزارات المعنية عن المتابعة والرقابة، وحول موسمية الحملة وارتباطها بظرف أو شخص… ذلك أنّ أصواتاً حكومية قد عبّرت عن امتعاض مبكر من الحملة. كذلك فإن ردود فعل بعض السياسين قد استحضرت الفئويات والمصالح السياسية والمناطقية دفاعاً عن بعض المؤسسات والأسماء. وهذه أو بعضها انتقد أو اعترض أحياناً باسم الحرص على السياحة وكأن السياحة لا تزدهر إلا إذا انعدمت الرقابة وتراكمت الأوساخ واستشرى فساد بعضه قاتل! بالإضافة إلى ذلك فالرأي العام نفسه مندهش مما يجري، ويشكك جزء منه، على الأقل، بالدوافع والغايات أو بالجدية والنتائج والنهايات. فلقد شهدت الحياة السياسية اللبنانية «همروجات إصلاحية» عديدة، كانت تنتهي جميعها إلى ما يشبه الفقاقيع التي لا تردع ولا تثني عن فساد. بل انه بعد «التطهير» الشهير في اوائل الستينيات، عاد بعض من طاولهم ذلك التطهير إلى سدة النيابة والوزارة والإدارة والسياسة من اوسع الأبواب!
الحقيقة هي أنه ليس من شيم أهل النظام السياسي القائم، وليس في تقاليدهم سلوك طريق الإصلاح. العكس هو الصحيح. ولا يتصل هذا الأمر بالرغبات، بل بطبيعة النظام نفسه، (وهو نظام فُرض على اللبنانيين وإن كان المستفيدون يحاولون تصوير ذلك نعمة ومعجزة سقطت على الأرض من السماء). وهو نظام، للتكرار، قائم على التقاسم (المحاصصة الطائفية والمذهبية) الذي منع من قيام الدولة وأدى الى نشوء دويلات، يشكل أيضاً ارتهان أصحابه للخارج عنصراً أساسياً، بل جوهرياً، في لعبة اكتساب الموقع والمحافظة عليه ومحاولة تحسينه (ولو كان ذلك يمر عبر التشرذم والصراعات وعدم الاستقرار وإضعاف عناصر الوحدة الوطنية… وصولاً إلى الاحتراب الأهلي القاتل والمدمرِّ والمتواصل: بشكل ساخن أحياناً، أو بشكل بارد في كل الأحيان)…
يمكن القول لا بأس
بالمسكنات شرط ألا تكون بديلاً من العلاج الجذري
بين مستلزمات قيام وترسخ منظومة التحاصص تعطيل الرقابة والمحاسبة، وإحلال «العرف» مكان القانون و«الميثاق» مكان الدستور. هذه صيغة لتكريس ان المصالح المتناقضة والمتكاملة، والمتشكلة في موازين قوى يحرسها الدور والتدخل الخارجيان (في صراعاته وتفاهماته أيضاً)، إنّما هي التي تصوغ الحياة السياسية اللبنانية وليس أي أمر آخر من نوع حقوق المواطنين المتساوية، أو المؤسسات الدستورية الحريصة والمنتجة، أو قوانين الانتخاب التي تستند إلى سلامة وصحة التمثيل والإجراءات، أو توفير عوامل الحصانة والوحدة الوطنية أومستلزمات التقدم والسيادة والاستقرار والديمقراطية…
ما يزيد من الإشكاليات، وبالنتيجة التشكك والتساؤل، هو أن الأمور العامة في البلاد تجري في مسارها «الطبيعي» المرسوم! بالأمس جدَّد المجلس النيابي لنفسه من دون أن يخشى اصحاب مشروع التمديد أي ردة فعل مقلقة لهم من قبل المتضررين أو من قبل القيمين احترام الدستور والقوانين (هذا في وقت بادرت حكومة الصهاينة، كما جرت العادة مراراً، على تقديم موعد الانتخابات التشريعية عندما هدّد الانقسام السياسي بين مكوناتها عمل مجلس الوزراء). وتحيط بنا الفضائح من كل حدب وصوب: فضيحة النفايات وانسداد المجارير عند أول زخة وتعطيل المؤسسات والخلاف المتفاقم على قانون الانتخاب (الذي يوضع، حتى بتفاصيله، سواء في الداخل او الخارج، في خدمة الصراع على الحصص وليس استناداً إلى صحة التمثيل وسلامة الإجراءات…). وماذا عن استمرار الشغور في رئاسة الجمهورية؟ وكيف يمكن لمجلس غير شرعي أن ينتخب رئيساً للجمهورية يتمتع بالشرعية الطبيعية؟! وماذا ايضاً عن القضاء والإمعان في استتباعه كنتيجة لعدم استقلاليته بعد تبرير وإجازة التمديد من قبل «المجلس الدستوري»؟!
رغم كل ذلك وسواه تمكن العودة إلى الحكمة القائلة: «لا تخجل من إعطاء القليل فالحرمان أقل منه»، بل يمكن القول: لا بأس بالمسكنات شرط ألا تكون بديلاً من العلاج الجذري. ما نراه، وسط غابة الفساد المقيمة لا يمكن أن تحجبه شجرة الوزير أبو فاعور اليتيمة. ذلك لا يقلل من أهمية المحاولة لكن ليس إلى درجة التوهم والقعود أواستمراره؟! في معادلات المصالح، وفي محصلات التجارب لن يكون الإصلاح، أبداً، من فوق، بل ينبغي أن ينبثق من القاعدة، أي من اكثرية الشعب اللبناني المتشكلة في تيار سياسي إصلاحي حقيقي ينطلق من المساواة لا من الامتيازات، ومن المصلحة الوطنية لا من المصالح الفئوية.