يلاحق الذلّ اللبناني حتى في مونته. فإن تسابق هذا المواطن مع سعر الصرف وتبضع وخزّن منتوجات غذائية، تربّصت به الدولة على “الكوع” بالكهرباء والمولّد لتأمره نتيجة ظلم الامر الواقع، برمي زوادته للفصول القادمة والأيام السوداء في النفايات. وأما التاجر والمحتكر فانه يرصد “الفرصة” ليوسع هامش الربح والمبيع وهو ان استمرّ بهذه العقلية سيخسر مستهلكه.
تنقلت “نداء الوطن” بين منازل أهالي كسروان والمتن وجبيل مستفهمة عن حالاتهم في ظل الشح في التغذية الكهربائية ووجدت أن المواطن تحوّل “مياوماً” حتى في غذائه اليومي. فشربل، من بلدة حياطة، رب عائلة مؤلفة من ثلاثة أولاد مدخوله لا يصل الى الخمسين دولاراً بسعر الصرف الحالي، مما يضعه على حدود خط الفقر، اعتقد انه إن حفظ الخضار والفاكهة في الثلاجة بعد فرزها سيكون قادراً على الصمود بوجه تبدلات أسعار الصرف التي تترافق مع تسعيرة جديدة كل يوم للمنتجات المثلجة في السوبرماركت.
لم يكتف بالخضار بل تبضع من اللحوم على أنواعها. بنظره لو مرحلياً انتصر على ارتفاع سعر الصرف سيحافظ بذلك على مستوى غذائي اعتاد عليه افراد عائلته. لكن كل هذه الجهود ذهبت مهب الريح في خلال ثلاثة أيام فرمى مخزوناً كان أعدّه لشهرين.
طالت مدة تقنين المولد وفترة انقطاع كهرباء الدولة التي تبرمج عشوائياً. فكما اصبح صعباً على ربات المنازل إيجاد ما يحتجنه بالسعر المناسب كذلك اصبح الطبخ اليومي. تخبر ميرنا (دكوانة) عن شعورها بالغبن عندما عاينت ما تلف مما تحضره منزلياً لتبيعه لربات المنازل. فهي تهتم بالتحضير بطبخة يومية لعدد كبير من العائلات في منطقة المتن واستمرت على عادتها مع ارتفاع سعر السكر والأرز. تجد اليوم نفسها عاجزة امام الأسعار العالية للغاز الأمر الذي يمنعها من الطبخ. الا ان الغاز ليس الازمة الوحيدة فمع انقطاع الكهرباء لم يعد بإمكانها حفظ الطلبيات، فالاكلة التي تطبخ يجب أن تؤكل. إضافة الى ان اللحمة لا تتحمل حرارة الطقس في فصل الصيف ولا براد لإنقاذ الطلبية.
تعادل المالح والحلو في حساب ربات المنازل فكله يحتاج الى تمويل ضخم مما قلّص من حجم الطبخة فميريام (ساحل علما) اعتمدت نظاماً جديداً كلياً في منزلها، واتجهت الى الكمية القليلة والتي لا تحتاج الى براد وحتى الغت اللحم على انواعه الا مرة خلال الأسبوع وتعلل ذلك بلفظة “ريجيم”، ضاحكة على نفسها وعلى الدولة التي لا تؤمن للمواطن حرية التلذذ بالطعام.
هذا الواقع المستجد على العائلات اللبنانية اول بذوره في السوبر ماركات. فيلاحظ جوزف الحج (صاحب متجر في عمشيت) أن زبائنه ما عادوا يتجهون الى الالبان والاجبان بل أكثرية الزبائن تشتري المعلبات وكل ما فيها من مواد حافظة حتى لو لم تكن تلك صحية. يشكو أيضاً عدد من المزارعين من احتمال تلف مواسمهم التي اصبحت على الأبواب فلا يوجد برادات للتخزين فاما تباع منتجاتهم مباشرةً او ترمى وهذا ما شجع عدداً من نساء كفرذبيان، كما روت سميرة زغيب، على تعليب المخللات، الكبيس، والمربى.
أما من كان قد خزّن الخضار لموسم الشتاء من البامية، الملوخية، كما فعلت نونا (جبيل) فقد تلف المخزون خلال بضعة أيام عدا عن تحوّل الخبز الى عجين مع ذوبان الثلج. تضرب نونا على رأسها فهي قد وفّرت وفق حساباتها سائلة: من أين نجد خبزاً الآن؟ فحتى الدولة غير قادرة على إيجاد بدل عن ضائع، اذ ان الافران شبه متوقفة ولا يمكن حفظ ما يمكن استلحاقه من الخضار بالغلي لانه يستهلك الغاز. هكذا أتى يوم الاحد المنصرم، الذي كان عيد السيدة، ثقيلاً فقد كان الغذاء الملفوف والباذنجان. والعفن تغذى بدلاً من البشر.
إنتهى زمن التخزين في العائلات التي تعتبر من الطبقة المتوسطة حسب الدكتور المتخصص في الامن الغذائي الياس غضبان فعند الكلام حول غذاء مُخزّن يتلف نكون في صدد استهداف العائلات التي تعيش تحت ضغط كبير فتلك كان راتبها 1200 دولار أي مليوني ليرة على سعر الصرف القديم واليوم اصبح يساوي مئة دولار مما يعني عملياً ان كل هذه الطبقة انتقلت الى “شفير الفقر” وهي التي تخسر. يؤكد ان خسارتها لن تطال قدرتها على تأمين قوتها اليومي ولكن مع غلاء الأسعار بنسبة 700% في بعض الأحيان ستنخفض القدرة على التخزين في المنازل. كل ذلك لن يضاهي المرحلة المستقبلية التي ستترافق مع ارتفاع أسعار المحروقات الذي سينعكس على أسعار منتوجات السلة الغذائية وأولها عبوات المياه المعبأة والقدرة على وصولها الى المنازل على حد تعبيره. طارحاً سؤالاً شغل تفكيره الا وهو: “كيف ستتبدل فواتير هذه الطبقة واستهلاكها على صعيد الاسرة”. من المحتم حسب متابعته ان المنتوجات المحلية سترتفع أسعارها فمصير المحصول الزراعي في ظل عدم القدرة على الريّ او تربية الدواجن التي تحتاج الى مازوت مجهولًا على حد توصيفه مما يعني تلقائياً ان نسبة استهلاك المواد الغذائية المحلية ستتقلص وسترتفع أسعارها والاسر لن تستطيع ان تدفع ثمن الإنتاج المحلي، والذي سيصغر حجمه في السوق. وهكذا ستتعادل المنتجات المستوردة والمنتج المحلي بنسبة العجز بتأمين الدولارات اذ هي حاجة في الحالتين مما سيطرح علامة استفهام حول الامن الغذائي على صعيد الاسرة.
هذا الواقع يتّسم بالايجابية بالمقارنة مع الطبقة الفقيرة التي لا يتأثر أمنها الغذائي بانقطاع الكهرباء مباشرة فبالنسبة اليهم “خبزنا كفاف يومنا”.