Site icon IMLebanon

الأمن الغذائي في خطر: إرتفاع أسعار السلع إلى تزايد والبطاقة التمويلية في خبر كان

 

30 في المئة من الأطفال ينامون بـ”بطون فارغة”

في حين لا يزال مستوى تضخم أسعار المواد الغذائية والسلع الاستهلاكية في لبنان يسجل ارتفاعات غير مسبوقة، ثمة خشية من أن يصل إلى أوجّه في حال أقرّ قانون تعديل سعر الدولار الجمركي، من جهة، وتفاقمت تداعيات الأزمة المستجدة مع دول الخليج، من جهة ثانية.

 

لا شكّ أنّ أحداث ما بعد ثورة 17 تشرين والأزمة الاقتصادية مع ما تبعهما من انهيار للّيرة اللبنانية وازدياد وتيرة تهريب السلع المدعومة وارتفاع أسعار المحروقات بعد رفع الدعم عنها، ناهيك عن عدم الاستقرار السياسي المستمر الذي يشهده البلد، جميعها أسباب ساهمت في تحقيق القفزة الجنونية في أسعار السلع على مختلف أنواعها. لكن، ومن خلال الأرقام، يتضح لنا أنّ مسار التضخم الفعلي للأسعار بدأ مع إعلان الرئيس السابق للحكومة حسان دياب وقف دفع سندات اليوروبوند يوم التاسع من آذار 2020 (كما يظهر في الرسم البياني ادناه)، وذلك بحسب الخبير الاقتصادي البروفسور جاسم عجاقة. فقد أخذت الأسعار ترتفع باطراد منذ ذلك الحين ليقفز مؤشر أسعار الاستهلاك (CPI) من 120 قبل ذلك الإعلان “المفصلي” إلى 240 في غضون بضعة أشهر، وصولاً إلى 568 في شهر آب من العام الحالي. فهل نحن على مشارف منزلق أشد خطورة مما سبق ومجاعة حقيقية تتربص بشريحة آخذة في الاتساع من المجتمع؟

 

معدّل التضخم إلى ارتفاع… والأمن الغذائي إلى زوال

 

في هذا الصدد، يعزو رئيس جمعية حماية المستهلك، السيد زهير برو، الأسباب وراء ما آلت إليه الأمور إلى عوامل عدة وهي “دعم التجار وتهريب الأموال والسلع وإخفائها من قبل سلطة الطوائف، إضافة إلى تغطية هذه السلطة وحمايتها لسياسة نهب المصارف للودائع عبر هيركات لامس حدود 90%، ما أدّى إلى كارثة اجتماعية اقتصادية لم يشهد لبنان لها مثيلاً منذ الحرب الأهلية”. كيف لا وقد ارتفعت أسعار أغلب السلع الغذائية والاستهلاكية بمعدّل يوازي سعر الصرف، أي حوالي 1200% إلى 1400%.

 

يضيف البروفسور عجاقة، في هذا السياق، أنّ أعمال التهريب في لبنان قائمة ومستمرة منذ العام 2011. لكن، وبعد ثورة تشرين، بات التهريب يستهدف أسواقاً أخرى بهدف ترحيل رؤوس الأموال التي حققها التجار. أمّا النتيجة، فتُرجمت أرباحاً صافية بما يقارب 600 مليون دولار أميركي من قبل التجار. فارتفاع الأسعار هو نتاج حتمي للاحتكار بالدرجة الأولى ولتسعير السوق السوداء الذي اعتمده التجار، إذ قاموا أحياناً باستخدام سعر صرف أعلى من سعر السوق السوداء المتفلت أصلاً من كل عقال. زد على ذلك احتساب الضريبة على القيمة المضافة والرسوم الجمركية على سعر دولار السوق السوداء أو أكثر، في حين أنّ الرسوم والضرائب ما زالت تسدّد على سعر الصرف الرسمي، أي 1507 ليرات لبنانية للدولار الواحد. سبب آخر لا يقلّ أهمية عما سبق ساهم في رفع الأسعار ألا وهو كمية العملة المطبوعة بالليرة اللبنانية لغرض تغطية عجز الموازنة وسدّ حاجات زبائن المصارف. أخيراً وليس آخراً، فإن رفع الدعم عن المحروقات وحده نتج عنه ارتفاع في سعر المنتجات الزراعية بواقع 5 إلى 10% تقريباً، وفي سعر ربطة الخبز حوالى 1000 ليرة لبنانية. كما ازدادت أسعار السلع في السوبرماركت حوالى 5% وباقي المواد الاستهلاكية بنسبة 5 إلى 7%.

 

في المحصلة، وبحسب إدارة الإحصاء المركزي في لبنان، فقد ارتفع معدّل التضخم من 4.5% عام 2017 ليصل إلى 84.9% عام 2020 و99.85% نهاية آب الماضي، أي بزيادة تقارب 2,121% خلال 5 سنوات.

 

تزامناً، أصبح الكلام عن انعدام أمن اللبنانيين الغذائي واقعاً من صلب الحياة اليومية للمواطن. فبحسب أرقام منظمة “اليونيسف”، ينام 30% من أطفال لبنان اليوم بـ”بطون فارغة”، وهو رقم يعبّر عن حقيقة مؤلمة لا سيّما أنّ البلد لم يصل بعد إلى أسفل درك الأزمة الحقيقية، بحسب معظم المراقبين. هنا، يوضح نقيب مستوردي المواد الغذائية، السيد هاني بحصلي، أنّ الحفاظ على الأمن الغذائي يرتبط بعوامل ثلاثة: توفّر الغذاء، صحّة الغذاء وإمكانية الوصول إليه. وهذه العوامل مجتمعة غير متوفّرة حالياً في لبنان بطبيعة الحال. فإنتاج المواد الغذائية يتراجع خاصة في ظل عدم نضوج سياسات إنتاجية بناءة وتزايد هجرة الكوادر. أمّا نوعية السلع المستوردة، فهي في تراجع مستمرّ نتيجة غياب الرقابة وإدخال الكثير من المواد الفاسدة، أضف إليها انعدام القدرة الشرائية عند المواطن ما يمنعه من الحصول على الكثير من السلع المبتغاة. هنا لا بدّ من طرح السؤال: متى كان الأمن الغذائي في لبنان متوازناً حيث شكل الاستيراد من الخارج 85% من الاستهلاك الغذائي لفترات طويلة؟ والحقيقة أن جلّ ما قامت به الأزمة الحالية هو نزع ورقة التين عن حالة عدم الاتزان المزمنة هذه.

 

إليكم المزيد من الأرقام المقلقة: ففي دراسة لبنك “أن بي دي” الإماراتي، يتوقع أن ينخفض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي للبنان بنسبة 90% مع نهاية العام الجاري، مقارنة مع ما كان عليه في العام 2019. كما أعلنت منظمة الإسكوا أنّ 1.25 مليون عائلة لبنانية هي اليوم تحت خط الفقر، 40% منها تحت خط الفقر المدقع و60% تحت خط الفقر العام.

 

الدولار الجمركي والأزمة الخليجية يهدّدان بـ”طيران” الأسعار

 

يشير السيّد برو إلى أنّ أسعار سلة السلع الأساسية التي تحتاج إليها الأسرة اللبنانية سجّلت إرتفاعاً كبيراً، وأنّ استمرار هذه الوتيرة التصاعدية نتيجة الأحداث المتلاحقة ينذر بانزلاق سريع وخطير نحو حالة من التضخم المفرط. وفي ما يلي رسم يبين ارتفاع معدّل التضخم لأسعار المستهلك في لبنان خلال شهر آب 2021 مقارنة مع الشهر نفسه من العام الماضي:

 

ويضيف السيد برو، بناء على تقديرات إدارة الإحصاء المركزي، أنّه يتعين على العائلة التي كان يقدّر مدخولها الشهري بمليوني ليرة لبنانية، والتي كانت تعتبر أصلاً على حافة الفقر، أن تجني اليوم 30 مليون ليرة للحفاظ على نفس مستوى المعيشة الذي اعتادت عليه. هذا في حين أنّ 72% من الأسر في لبنان لا تتعدى مداخيلها مليونين وأربعمائة ألف ليرة لبنانية، ما سيجعلها تواجه صعوبة حقيقية في تأمين قوتها بالحدّ المطلوب. نتطرق إلى الحديث عن زيادة الدولار الجمركي ومفاعيل الأزمة الديبلوماسية مع دول الخليج، فتصبح الصورة أكثر قتامة.

 

إذ في حين يوصّف السيد برو قرار زيادة الدولار الجمركي بأنه أحد سياسات إرضاء الدولة لصندوق النقد الدولي على حساب الشعب، يعلق السيد بحصلي قائلاً: “إنّ تدهور قيمة الليرة أدّى إلى انخفاض الرسوم الجمركية. لا شك أنّ هذا القرار سيحقق أرباحاً هائلة في إيرادات الخزينة لا سيما أنّ لا خيارات بديلة للحكومة لزيادة وارداتها. وإذا ما نظرنا إلى واقع الأمور، فالدولار الجمركي في حال إقراره سيعيد الرسوم الجمركية إلى ما كانت عليه سابقاً. نحن لا نتكلم هنا عن زيادة الرسوم الجمركية وإنما عن إعادتها إلى نسبها الطبيعية. فالرسم الجمركي على سلعة ما والذي كان يشكل 1%، مثلاً، لن يزيد إلى 10%، بل سيبقى 1% إنما على سعر صرف مغاير”. لكن بحصلي يضيف أنه في حال لم يقترن هذا القرار بخطوات جدية تدعّم القدرة الشرائية للمواطن، فـ”إنني أحذر من تفاقم الوضع المعيشي بشكل خطير في المرحلة المقبلة مع إمكانية ازدياد نسبة اللبنانيين الرازحين تحت خط الفقر”.

 

ولدى الاستفسار عن مفاعيل الأزمة الخليجية في حال توقف عمليات الاستيراد والتصدير، يجيب البروفسور عجاقة أنّ الأزمة لم تؤثر حتى الساعة نظراً إلى أنّ معظم المصدرين يبقون على أموالهم في الخارج. لكن التداعيات لن تتأخر بالظهور في المرحلة المقبلة. فكون لبنان يعتمد بالدرجة الأولى على عمليات الاستيراد والتصدير، سيؤدي أيّ إقفال متماد لأي سوق إلى شلل اقتصادي تام. أما في حال حصول عمليات ترحيل لعمال لبنانيين، فسينعكس ذلك سلباً على كمية الأموال الطازجة التي تدخل البلاد والتي تُعتبر اليوم مصدر الأوكسجين شبه الوحيد لغالبية الأسر اللبنانية.

هل المسّ بالاحتياطي الإلزامي وإقرار البطاقة التمويلية هما الحلّ؟

 

“الدستور يمنع المس بالاحتياطي”، وبالتالي لا يرى البروفسور عجاقة كيف يمكن استخدامه، “اللهم إلّا إذا قام المشرّع باختلاق بدعة ما”. أما بالنسبة إلى البطاقة التمويلية، فهناك إجماع على أنها “شيك بدون رصيد”، هذا إن توفر لها التمويل بالدرجة الأولى. كذلك، فقرض البنك الدولي لم يقرّ حتى الساعة، والتعديلات التي قام بها المجلس النيابي على الاتفاقية وأقرّها في القانون 291 في آذار الماضي تم رفضها من قبل مجلس إدارة البنك الدولي. وعلى الرغم من أن المجلس طرح على جدول أعمال جلسته الأخيرة اقتراح قانون للعودة عن تلك التعديلات، إلا أنّه تمّ تطيير الجلسة بلعبة النصاب.

 

ويبقى السؤال: إلى متى سيتواصل الاستخفاف في لقمة عيش الأطفال والأسر؟ الجواب على لسان البروفسور عجاقة مجدّداً: “يعاني الاقتصاد اللبناني من ثقب في الدورة المالية مع هروب الدولارات إلى الخارج وعدم دخول دولارات جديدة. وبالتالي سيستمر التضخم إلى حين إغلاق هذا الثقب وضبط الاحتكار”. إذ إن المعالجة الجدّية لا تكون إلا عبر إجراء إصلاحات مالية واقتصادية ونقدية تزيد من الصادرات وتقلل من الواردات. والحل الجذري لا يكون هو الآخر إلا بتحويل الاقتصاد اللبناني من اقتصاد استهلاكي الى اقتصاد منتج عبر تحفيز القطاعات الإنتاجية ودعمها.

 

الوصفات موجودة، إلا أن الطامة الكبرى تتمثل بحكومات متعاقبة هي إما غير راغبة أو غير قادرة على محاربة الفساد وإصلاح البنية التحتية لمؤسسات الدولة، وعلى رأسها القضاء الذي من المفترض أن يكون رأس حربة محاسبة المتجاوزين. فـ”من أمِن العقاب أساء الأدب”، والمواطن هو غالباً أول وآخر من يدفع الثمن.