أيّ تموضع للبنان على الصعيدين الإقليمي والدولي في ظلّ التغييرات الهائلة التي أحدثتها حرب روسيا مع الغرب في أوكرانيا؟
فالبلد المنشغل بأمنه الغذائي وتذبذب أسعار النفط صعوداً، وبالتناقضات حول إقرار الموازنة والهجوم «القضائي» على المصارف، وخطة الكهرباء وسلعاتا، ومفاوضات ترسيم الحدود مع إسرائيل، وبالانتخابات وحملاتها تمهيداً للمنازلة الكبرى في 15 أيار، لن يستطيع تجنّب تداعيات تلك الحرب على المنطقة التي يتأثر بها سياسياً مثل تأثّره الاقتصادي والمعيشي. ومن باب أولى التداعيات على جارته سوريا، بعدما جرى ربطه بالحرب فيها من البوابة الإيرانية.
مع دخول الثورة السورية على النظام أمس عامها الثاني عشر، وتحول بلاد الشام إلى مرتع لشتى أنواع الحروب والتدخلات الخارجية، تفرض «توأمة» مشاكل البلدين نفسها، لا سيما الاقتصادية والمالية أكثر من أي وقت.
تعاني سوريا مثل لبنان شحاً في العملات الصعبة لاستيراد ما تحتاجه، وتعيش الدوامة التي غرق فيها، على مقياس أكبر نظراً إلى عدد السكان على رغم تهجير الملايين. بل إن النظام يشتري من مناطق دير الزور النفط الذي تنتجه قوات سوريا الديموقراطية بسيطرتها على أكثر من حقل هناك بدعم أميركي. وفيما رفع الجانب الكردي أسعار ما يبيعه لدمشق طبقاً لارتفاع الأسعار عالمياً، فإنّ هذا التصرف دفع الميليشيات التي تأتمر بقيادته العسكرية إلى قصف أحد الحقول بالصواريخ قبل 3 أيام وتردّد أن 3 موظفين محليين قتلوا يعملون تحت الإمرة الأميركية. الهدف هو السيطرة على أحد الحقول لكي ينتج منه للاستهلاك المحلي في الشمال الشرقي. يسهل للميليشيات أن تتولّى قصف مناطق يسيطر عليها الأميركيون، نظراً إلى تعدد ولاءاتها، إيرانية كانت أم سورية، أم تأتمر بقيادة قاعدة حميميم الروسية.
في الجنوب تتفق المافيات التي تتمتع بحماية من إيران وسوريا على تهريب المخدرات والأسلحة عبر الحدود مع الأردن، ما يدرّ أرباحاً هائلة تحصل دمشق على جزء منها بسبب غضّها النظر على الأقل.
وفي وقت كانت واشنطن تبحث خلال الصيف في تقريب المصالح مع روسيا في سوريا، من أجل التوافق على توزيع النفوذ في شمالها، وإقامة منطقة منزوعة السلاح في جنوبها على الحدود مع إسرائيل، والحدّ من التمدد الإيراني، قلبت الحرب في أوكرانيا الأمور، وبات البحث يدور لدى الأميركيين حول مقارعة موسكو في بلاد الشام في سياق المواجهة الغربية معها. فالمناخ الغربي بات يعتبر موسكو غير مقبولة من أجل التسويق للحل السياسي في سوريا على أساس القرار الدولي رقم 2254 لتحقيق الانتقال السياسي. وينتظر أن يتم تفعيل قانون قيصر ضد النظام لوقوفه مع موسكو في حربها على أوكرانيا، وبالتالي ضد الجانب الروسي أيضاً في سياق الضغوط الغربية عليه. والوجود الإيراني في سوريا لا يمكن إلا أن يكون إلى جانب روسيا، حتى إشعار آخر لأن لها اليد الطولى في دمشق، بموازاة نفوذها هي. وثمة عامل آخر يفرض نفسه على الجغرافيا السياسية هو السعي الأميركي إلى التحضير للاعتماد على الغاز من المنطقة الحدودية البحرية المشتركة بين قطر وإيران، والذي قضى المشروع القديم باستكمال مدّ أنبوب الغاز من هذه الحدود عبر قطر، السعودية، الأردن وصولاً إلى إسرائيل، ومن ثم إلى اليونان. وليس عن عبث أن يعتبر جو بايدن قطر أهم حليف لأميركا من خارج الناتو. فتأمين إمدادات الطاقة بدلاً من الغاز الروسي، هو أولوية الغرب على أي أولوية أخرى.
كيف سينعكس ذلك على لبنان؟ مقابل حاجة إيران إلى استمرار حلفها مع روسيا في سوريا، فإن وضعها مختلف عندنا. لبنان سيكون في حال من التجاذب بين الانحياز لأميركا بفعل قرب معظم طبقته السياسية منها ومن فرنسا، وبين الأخذ في الاعتبار موقف موسكو. وإذا كان من يدير الدفة في هذا المجال «حزب الله»، فإن الأخير يرصد مثل طهران، مدى تسبب حاجة الغرب لتحييد الأخيرة ولاسترضائها في المواجهة مع روسيا، بإعطائها جوائز ترضية في المنطقة، ومنها لبنان وسوريا، أو أحدهما، مع ضمان أمن إسرائيل.
صحيح أن «حزب الله» انتقد الإدانة اللبنانية لاجتياح روسيا أوكرانيا، إلا أنه دعا إلى عدم التوقف كثيراً أمام هذا الموقف في الاتصالات البعيدة من الأضواء، مبرراً ذلك بأنه حيث للأميركيين دور من الطبيعي أن يعاكسهم.
فالحزب لا ينظر إلى موسكو على أنها حليف استراتيجي وعلاقته معها عادية، بدليل أن وفداً منه زارها «مرة واحدة فقط»، حين دُعي رئيس كتلته النيابية محمد رعد السنة الماضية.
الحزب أيضاً يراقب ما يجري بين طهران وواشنطن في فيينا لعلّه يؤدي إلى تكريس التقاسم الأميركي الإيراني في لبنان، كأحد الخيارات.