زيادة أسعار المحروقات تترجم نقصاً في المحاصيل وتقليصاً للمساحات الزراعية
«الغذاء هو محروقات البشر». غالباً ما يُستخدم هذا التوصيف لشرح «مفاعيل» الأطعمة والمأكولات على جسم الإنسان. اليوم، مع «اشتعال» أزمة المحروقات، بات الوقود رديفاً لغذاء المُقيمين لما له من تأثير مباشر على أمنهم الغذائي المُهدد حالياً بـ«حريق» الأزمة الاقتصادية
في نشرته الدورية الصادرة قبل نحو أسبوعين، حذّر قسم برنامج الأمن الغذائي في الجامعة الأميركية في بيروت من مخاطر نقص الوقود على القطاع الزراعي، نظراً لعدم قدرة المزارعين على ريّ حقولهم «في هذا الوقت الحرِج من موسم الإنتاج (…) ما يُرتّب آثاراً سلبية على إنتاج الغذاء المحلي والصادرات الغذائية (…) إذ عادة ما يستخدم المزارعون الوقود لتشغيل مضخّات الري التي تتضاعف الحاجة إليها في ذروة الإنتاج الصيفي الموسمي، كمحاصيل البطاطا والبصل التي تعدّ أبرز عناصر النظام الغذائي المحلي».
أعقب هذا التقرير تحذير أطلقته منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) من توقّف معظم مضخات المياه في لبنان تدريجياً، بين أواخر الشهر الجاري ومطلع أيلول بسبب الانقطاع المستمر للكهرباء، ما سيدفع حُكماً بغالبية المزارعين إلى «خفض المساحات المروية والتوجه نحو الزراعات المطرية»، بحسب ما يؤكد لـ«الأخبار» ممثل منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة «فاو» في لبنان الدكتور موريس سعادة، لافتاً إلى أن التأثير المباشر لزيادة أسعار المحروقات على الإنتاج الزراعي قد يُترجم بـ«فقدان كثير من المحاصيل المحلية كالخضار الصيفية وبعض الأشجار المثمرة نتيجة تقليص المساحات المروية».
إلا أن معضلة تأمين الوقود للمزارعين، على أهميتها، ليست وحدها ما يهدّد الأمن الغذائي الذي يعتمد على قطاعات مُترابطة مُصابة كلها بسموم الأزمة الاقتصادية.
يوضح الخبير في الأمن الغذائي رامي زريق لـ«الأخبار» أن الأمن الغذائي يتعدى مفهوم إنتاج الغذاء المحلّي، ويشمل أربعة أبعاد، أولها توافر الغذاء سواء عبر الإنتاج المحلي الذي تؤثر عليه بشكل مُباشر أزمة المحروقات نتيجة اعتماد المزارعين على الوقود لحراثة الأراضي أو لري المحاصيل، أو عبر استيراد الغذاء الذي تعترضه عوائق الأزمة الاقتصادية العميقة. والبُعد الثاني يتمثّل بالقدرة على الوصول إلى الغذاء، «إذ لا يكفي أن يكون الغذاء متوفراً، بل الأهم أن تكون هناك قدرة على الحصول عليه». واليوم، ثمّة صعوبات تحول دون قدرة كثيرين على الحصول على غذائهم نتيجة تدهور القدرة الشرائية.
إطعام أسرة من خمسة أفراد الآن يكلّف أكثر من خمسة أضعاف الحد الأدنى للأجور
وفي هذا السياق، تشير تقديرات مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية في بيروت إلى أن الأسرة المكونة من خمسة أفراد تتكبّد اليوم ما لا يقل عن 3.5 مليون ليرة شهرياً ثمناً للطعام، أي أكثر من خمسة أضعاف الحد الأدنى للأجور. كما تُفيد نتائج التقييم السريع الذي أجرته «يونيسف» أخيراً إلى أن أكثر من 30٪ من الأطفال ينامون جائعين، و77٪ من الأسر ليس لديها ما يكفي من الغذاء لإطعام أطفالها، و10٪ فقط من النساء قادرات على ممارسة الرضاعة الطبيعية الآمنة. وإلى ذلك، ثمة صعوبات أخرى تحول دون إمكانية الوصول إلى الغذاء تتمثّل بعدم توفر المحروقات لقطع مسافات من أجل الوصول إلى الغذاء (كما حصل في انقطاع توزيع الخبز عن بعض المناطق).
أمّا البُعد الثالث فيتعلق باستعمال الغذاء، «وهنا البُعد المخفي الأبرز والمرتبط بمعرفة ما إذا كانت الأطعمة آمنة أم لا» وفق زريق، لافتاً إلى أن أزمة التبريد الناجمة عن الانقطاع المستمر للكهرباء وصعوبة توفّر الغاز الذي يؤثر على طهي الطعام وعدم توفر المياه النظيفة لغسل المأكولات كلها عوامل تجعل الأطعمة غير آمنة. علماً أن «يونيسف» أعلنت أخيراً أن غياب نظام إمدادات المياه العامة سيجبر المُقيمين في لبنان على شراء المياه من مورّدين خاصّين مما يرفع تكلفة المياه بنسبة 200%، «الأمر الذي قد يجبر الأسر على اتخاذ قرارات صعبة للغاية في ما يتعلق باحتياجاتها الأساسية من المياه والصرف الصحي والنظافة».
وفي البُعد المرتبط باستعمال الغذاء أيضاً، يلفت زريق إلى توجه المُقيمين إلى المعلبات وغيرها من الأطعمة غير الصّحية. وأوضح أن الغذاء «لا يعني شحن الشخص فقط بالسعرات الحرارية، بل يتطلّب تمكين الفرد من الحصول على قدرة استعمال الغذاء المناسب».
أما البُعد الرابع فيتعلق باستمرارية الغذاء. فالأمن الغذائي لا يعني فقط توفير الغذاء اليومي بل عدم القلق من صعوبة تأمينه في القادم من الأيام، وهو أمر يفتقده كثيرون حالياً بسبب الأزمة الاقتصادية التي تؤثر بشكل كبير على قدراتهم الشرائية.
أمن المياه والطاقة والغذاء
«الترابط بين المياه والطاقة والأمن الغذائي» أو ما يُعرف بـ Water-energy food security nexus مصطلح تبنته كثير من المنظمات الدولية المعنية بالتنمية المستدامة بهدف تعزيز فهم ارتباط القطاعات ببعضها وكيفية تأثير السياسات القطاعية على بعضها البعض. فـ «الفاو»، مثلاً، تشير إلى أنه عندما تُصبح الموارد أكثر ندرةً ويزداد الطلب عليها، ويتم وضع وتنفيذ خطط قطاعية بشكل مستقل من دون مراعاة القيود المادية والتبادلات والتأثيرات على القطاعات المختلفة، «يُصبح المجتمع أكثر ضعفاً لأن الآثار غير المُباشرة على القطاعات تُصبح أكثر كلفة وغير مستدامة»، كما يصبح الترابط بين القطاعات «أقوى» ما يتطلب تخطيطاً متماسكاً. هذا الأمر ركّز عليه تقرير «الإسكوا» عن «الترابط في أمن المياه والطاقة والغذاء في المنطقة العربية» قبل نحو خمس سنوات لجهة إمكانية تحقيق الدول العربية أهداف التنمية المُستدامة إذا ما أخذت في الاعتبار ما سمته «أمن المياه والطاقة والغذاء». ووفق هذا المنطق، يغدو لبنان، حيث تبعد سلطته السياسية كل البُعد عن الخطط الطويلة الأمد والمتكاملة لمعالجة الأزمات، أمام مأزق «شامل» وعميق.