الطبقة الحاكِمة هي المسؤولة عن الإنهيار.. والثورة مخرجنا الوحيد
في كتابه «الخبز» ذكر توفيق يوسف عواد وصفا لبعض المشاهد التي رآها في مجاعة العام 1915: «كان هناك 200 ألف ضحية في أربع سنوات فقط وهو رقم لا شك كبير. كان الناس يتضورون جوعا ولم يكن بمقدورهم فعل شيء كما لم يقووا على المقاومة. وخرجوا يهذون في الشوارع ببطونهم المنتفخة..»
لم تعد هذه المشاهد بعيدةً عن هواجس اللبنانيين، الذين بات المسؤولون في الدولة قبل غيرهم، لا يترددون في الحديث عن أهوال الأزمة المتوقعة، متوقعين أنها ستصل إلى حدود المجاعة، والتي يتحملون مسؤولية وقوعها بسبب فسادهم وتخريب علاقات لبنان وتدمير بنيته الإقتصادية والإجتماعية.
الحريري يعترف: الأزمة وشيكة
إلا أن الإعتراف الأبرز من الطبقة الحاكمة بإقتراب شبح الكارثة الإقتصادية، جاء من رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري الذي أعلن مكتبه أنه طلب العون من دول وُصفها بـ»الصديقة»، لمساعدة لبنان على تأمين واردات الغذاء والمواد الخام في ما سماه «الأمن الغذائي». وأوضح البيان إن الحريري طلب المساعدة من كلٍ من: السعودية وفرنسا وروسيا وتركيا وألمانيا والولايات المتحدة والصين ومصر.
أين تيار المستقبل؟
مع تيقـّن القوى السياسية من حتمية وقوع الأزمة، سارعت إلى التواصل مع جمهورها، وباشرت حملات التوعية والتجيه وإطلاق المبادرات العملية للإستعداد لأيامٍ وربما سنواتٍ صعبة..
في المقابل، يبدو الرئيس الحريري وتيار المستقبل منهمكين في الصراعات السياسية، غير مبالين بما هو أبعد من حدود هذه الأولوية.
ولا يمكن إعتبار بيان الحريري لطلب المساعدات كافياً، لأنه بيانٌ سياسيّ «لا يسمن ولا يغني من جوع»، فضلاً عن أنه إعترافٌ بالكارثة المتوقعة، من دون أن يحرّك ساكناً نحو المناطق التي يمثلها من عرسال إلى عكار والضنية، مروراً ببقية المناطق..
قد يقول قائل: إن رهان الحريري على الدولة. ولكن هذا الرهان سبق أن سقط عندما عجز الحريري عن تأمين حقوق المناطق السنية وتركها محرومة من مشاريع التنمية، يوم كانت الأموال ممكنة التوفير، وها هو اليوم يتركها لمصيرها تواجه أسوأ المصائر، من دون أن يعني له ذلك شيئاً، وكأن السياسة عنده توقفت عند كرسيّ رئاسة لحكومة، يقترب الجوع من شعبها ساعة بعد ساعة..
مؤشرات دولية مقلقة
إتضحت أكثر فأكثر ملامح الموقف الدولي من لبنان، ومعها ينكشف عمق المأزق الذي أوصلتنا إليه التسوية الرئاسية، من عجزٍ عن القيام بالحدود الدنيا من وظائف الدولة، وسط تخبط أحزاب السلطة وتصارعها، وإتفاقها على محاربة ثورة 17 تشرين الأول ودفنها والقضاء على كامل مفاعيلها.
ولعل المكابرة عن الإعتراف بهذا المأزق هي المأزق الأكبر، فلا أحد يجرؤ على طرح الأزمة كما هي، وبدون قفازات، والقول إن موقع «حزب الله» وسلاحه في الحياة السياسية لم يعد ممكناً قبوله كما كان قبل الثورة، كما أن الفساد الوقح والفاضح، لم يعد ممكناً السكوت عليه، ويجب وقفه بشكلٍ فوري. ولهذا، فإن المجتمع الدولي واضح أيضاً في إصراره على حكومةٍ تقيم الإعتبار للدولة ومؤسساتها الشرعية، وتوقف غيلان الفساد الذي يأكل كل المساعدات وكل الدعم، ولا يسمح بإنعاش الإقتصاد وتوفير الحدود الدنيا للمعيشة الكريمة للناس.
ولهذا أيضاً فإن المجتمع الدولي الذي نظم إجتماع باريس وكانت رسالته واضحة: إما حكومة موثوقة تكافح الفساد، وتضمن حياد لبنان، وإما مواجهة التبعات، وبالإنتظار يجري الحديث عن حصر المساعدات بالمعونات الإنسانية، وإستبعاد المساعدات المالية، حتى الوصول إلى الحكومة المنتظرة بالمعايير التي أشرنا إليها.
بالإنتظار، قام الصليب الأحمر الدولي بفتح مخازنه في قبرص إستعداد لإدارة الكوارث في لبنان، وهي خطوة تؤشر إلى إقتراب وقوع الأزمات المعيشية والصحية والإنسانية، من دون أن يكون للسلطة أيّ دورٍ في مواجهتها أو التخفيف من وطأتها.
بإستعراض ما تقدم من مواقف ومبادرات، يتضح أن الجميع على علمٍ بالسيء الآتي، ولكنهم يتجاهلون الشعب، ويتجهون لتحصين أحزابهم وبيئاتهم المذهبية والمناطقية، في تخلٍ شديد البشاعة عن المسؤوليات الوطنية الكبرى، مما يجعلنا نتساءل: هل فعلاً نحن أمام رؤساء جمهورية ومجلس نواب وحكومة ورؤساء كتل في برلمان وحكومة لبنان.. أم أننا أمام كانتونات بدأت ترتسم من جديد على الخريطة اللبنانية؟؟
الثورة وحدها المنقذ
وحدها ثورة 17 تشرين الأول.. ووحدهم ثوارُها لا يزالون يتمسكون بلبنان الوطن الواحد الموحد، وبسلاح جيشه ومؤسساته الأمنية الشرعية، ولهذا فإنها مدعوّة إلى التفكير السريع بكيفية مقاربة العاصفة الإنسانية الآتية، وكيف يمكنها أن تكون قارب النجاة للشعب من أحزابٍ لا تتوانى عن تحويل الوطن كبش فداء لأطماعها وإرتباطاتها الخارجية.
وحده خيار الثورة المبني على إعادة رسم الحدود الفاصلة بين الدولة والدويلة والقادر على محاصرة شبكات الفساد المتجذرة في جسم الدولة.. من شأنه أن ينقذ لبنان ويعيد له مكانته ويسمح بإعادة ضخّ الحياة بإقتصاده من خلال إعتماد سياسة متوازنة على الصعيد العربي والإقليمي والدولي، وإعادة بناء مؤسسات الدولة على قواعد علمية وطنية صلبة، وعليه لا مناص من إستكمال الثورة مسيرتها ليبقى لبنان الحضارة والرسالة.