عانى المواطن اللبناني من أزمة لم يعتاد عليها أسلافه، إذ ارتفع سعر صرف الدولار في السوق السوداء إلى نحو 40 ألف ليرة للدولار الواحد، وحدثت أزمات اجتماعية واقتصادية وصحية متزامنة، من (كوفيد 19) مروراً (بالكوليرا) واليوم يتحدثون عن تفشي(H1N1)، لذا فإن وضع المواطن اللبناني في ظلّ هذه الأزمات الصحيّة، يجعل من المستحيل عليه مواجهة الآثار الاجتماعية التي تترتب عليها دون مساعدة الدولة اللبنانية للحفاظ على المجتمع، وبالتالي ضمان الأمن الغذائي للمواطنين اللبنانيين.
يعتبر الشخص الذي يكون مواطناً في دولة ما؛ أحد الركائز الأساسية لوجود تلك الدولة حيث تتكون من (السكان والإقليم الجغرافي والسلطة السيادية). وهكذا، فإن الدولة ممثلة بالسلطة السياسية في تعاملها مع أشخاص القانون الدولي العام (أي غيرها من الكيانات والسياسية والمنظمات الدولية). إضافةً إلى أنّها وفي ظلّ العقد الاجتماعي القائم عليها أنّ تحافظ على حقوق وحريات المواطنين وتوفرها لهم ضمن حدود ما تقتضيه المصلحة العامة.
في ضوء ذلك، يتمتع المواطنون بالحقوق والحريات الأساسية المنصوص عليها في المواثيق والعهود الدولية وكذلك في الدستور والقوانين الداخلية للبلاد. في نفس السياق، مع تطور الحياة البشرية في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، اختلفت نوعية الحياة التي يجب أن يتمتع بها المواطنون بالفعل عما كانت عليه قبل 100 عام. في عصرنا الحالي، أصبح عصر التكنولوجيا والفضاء الإلكتروني ولكن للأسف عدنا للحديث عن الأمن الاجتماعي وما ينطوي تحته من حقوق، بما في ذلك الحق في الغذاء والحق في مستوى معيشي لائق.
من العناصر الأساسية للمجتمع أن يتمتع الأفراد وأسرهم بمستوى معيشي مناسب لهم، بما في ذلك الحاجة إلى توفير المأكل والملبس والسكن اللائق، فضلاً عن الجهد المستمر لتحسين حياة الأفراد. وبالتالي، لا ينص الدستور اللبناني على هذا الحق ولا على الحقوق اللاحقة المرتبطة به صراحة (بخلاف الحق في السكن). لذا نعود إلى الفقرة (ب) من مقدّمة الدستور اللبناني، وأيضاً بما نصت عليه الفقرة (ج) من مقدّمة الدستور اللبناني لسنة 1990، على تحقيق العدالة الاجتماعية دون تمييز.
ويستند مفهوم «الأمن الغذائي إلى أربعة مرتكزات، هي: توافر الغذاء، أي تأمين إمداد كافٍ من الغذاء سواء من الإنتاج المحلي أم من الأسواق العالميّة؛ تأمين إمداد مستقرّ من الأغذية على مدار السنة ومن موسم إلى ﺁخر؛ تأمين توافر الغذاء لعامة الناس بأسعار معقولة تتناسب ومستوى دخولهم؛ سلامة الغذاء» (المنظمة العربيّة لحقوق الإنسان، حقوق الإنسان في الوطن العربي التقرير السنوي 2009-2010، مركز دراسات الوحدة العربيّة، بيروت، الطبعة 1، 2010، ص261).
دفع الأمن الغذائي العالمي غير المستقر في أعقاب الحرب الروسية – الأوكرانية العديد من البلدان إلى البحث عن مصادر للصادرات الغذائية الأساسية بخلاف المصادر الأوكرانية. كما حظرت بعض الدول تصدير بعض السلع الأساسية حفاظاً على أمنها الاجتماعي وأمنها الغذائي (الهند مثال على ذلك). عندما كنا في لبنان، من الدول الداعمة فقط لقطاع الخدمات، لم تضع الحكومات اللبنانية المتعاقبة سياسيات واستراتيجيات واضحة ومدروسة لتنشيط القطاع الزراعي والصناعة الغذائية. ولعل ذلك يعود إلى الأزمات السياسية المتتالية، فضلاً عن وجود تدخلات دولية تعيق تنمية هذه القطاعات، إذ لا يزال لبنان يعاني من ضغوط خارجية من جانب الدول الكبرى، واليوم الموطنين اللبنانيين يتضورون جوعاً ويفتقدون إلى الأساسيات التي يتشكّل منها قوتهم اليومي، بسبب التضخم وتدني قيمة النقد الوطني، إضافةً إلى حجز ودائعهم في المصارف.
وفي السياق نفسه إنّ الحقّ في الغذاء، هو حقّ يعود لكلّ شخص في الحصول على الغذاء، «إذ يعدّ الحقّ في الغذاء عاملاً جوهرياً لحياة كريمة وحيوياً لإعمال العديد من الحقوق الأخرى مثل الحقّ في الصحّة والحياة. لا يستمد الغذاء أهميته من كونه يساعد في البقاء على قيد الحياة، إنّما أيضاً بسبب دوره في الإنماء الكامل لقدرات المرء الجسديّة والعقليّة» (الشبكة العالمية للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافية)، (الموقع الإلكتروني www.escr-net.org).
لا نبالغ القول أنّ الحقّ في الغذاء يشكّل أهمّ الحقوق وأخطرها، نظراً لارتباطه بالحقّ بالحياة، بحيث «إنّ مأساة الجوع والمرض، أصيلة في حياة البشر، ومترادفة مع وجوده وملازمة لتطوره، وهي متّصلة، اتصالاً اجتماعياً وفلسفياً بخلق الإنسان» (يراجع: أدمون رباط، الوسيط في القانون الدستوري العام، الجزء الثاني، النظرية القانونيّة في الدولة وحكمها، الطبعة الثالثة، بيروت، لبنان: دار العلم للملايين، 2004، 224).
فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان قد نصّ في المادة (25) منه، على الحقّ في الغذاء والصحة والرفاهية: لكل شخص الحق في مستوى من المعيشة كافٍ للمحافظة على الصحة والرفاهية له ولأسرته، ويتضمن ذلك التغذية والملبس والمسكن والعناية الطبية وكذلك الخدمات الاجتماعية اللازمة. والحق في الأمن في حالات البطالة والمرض والعجز والترمل والشيخوخة أو حالات أخرى من فقدان وسائل العيش نتيجة لظروف خارجة عن إرادته.
وأمّا العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فقد نصّ على الحق في مستوى معيشي ملائم لكل الأفراد وأسرهم، وذلك في المادة (11)، الأسرة هي التكوين الّذي يتألّف منه المجتمع وسلامته من سلامة الأسرة، وبالتالي لا بدّ من رعايتها وتحقيق رفاهيتها.
مثلما هو الأمر بالنسبة إلى الطائفية السياسية والسياسة التوافقية في إدارة الحكم، فإنّ الدستور اللبناني ينصّ في مقدّمته في الفقرة «و» على أنّ «النّظام الإقتصادي حرّ يكفل المبادرة الفردية والملكيّة الخاصّة». وبالتالي هناك سياسة عدم التدخل في الإقتصاد، الأمر الذي ألقى في ظلاله على مبدأ المساواة، حيث لا مساواة في المداخيل والثروات. حيث إنّ السياسات الحكومية اللبنانية لم تصل إلى حدّ ناجح، تضمن وجود سياسات اجتماعية تحمي المواطن اللبناني من الفقر والعوز والجوع.
وفي الفقرة «ز» نصّت مقدّمة الدستور اللبناني، على أنّ «الإنماء متوازن للمناطق ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً ركن أساسي من أركان وحدة الدولة واستقرار النّظام»، وهذا الأمر لم يحصل إلى اﻵن، فلم تكن أهداف السياسات الحكومية بهذا الإتجاه، ومثل بقية نصوص الدستور ومنها المتعلّق بإلغاء الطائفية السياسية، لم يتمّ تطبيقها بعد.
ويبرز؛ الحق في مستوى معيشي مناسب من الحقوق المهدّدة بالإنتهاك من وراء إجراءات المصارف، فمن حق المواطن أن يتمتع بمستوى معيشي مناسب وذلك يكون بأنّ يوفّر له عدة أشياء (مثل الحقّ في التعلّم، حيث برزت أزمة الطلاّب اللبنانيين في الخارج وعدم قدرتهم في متابعة دراستهم بسبب إجراءات المصارف اللبنانية). ويتّضح مستوى المعيشة، من خلال «كميّة السلع والخدمات الماديّة والمعنويّة التي يمكن للفرد الحصول عليها مقابل الدّخل الّذي يمتلكه ويشكّل مستوى المعيشة، لا القوّة الشرائيّة، شكل المعيشة» (يراجع: إبراهيم نجار، القاموس القانونيّ الجديد، طبعة معادة، بيروت، لبنان: مكتبة لبنان، 2009، ص426).
وقد طرح الاقتصادي الكبير «أمارتيا سن Amartya Sen»، الحائز على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية، مفهوم «الحقّ في العيش الكريم»، بحيث اعتبره من الحقوق الأساسية للإنسان في مجال التبادل. ويحدد «سن» مقومات ثلاث لإعمال هذا المفهوم (يراجع: محمود عبد الفضيل، أستاذ الاقتصاد جامعة القاهرة، الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، (أعمال الندوة العربية حول تفعيل العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الدار البيضاء 16 و17 تموز 2003، المنظمة العربية لحقوق الإنسان، الطبعة 1، 2004، ص47):
1- حق الحصول على عمل منتج ودائم (الحق في التوظف).
2- حق الحصول على أجر (أو دخل) يسمح بتحقيق مقومات العيش الكريم، أو ما يسمى بالإنكليزية (Living Wage)، أي باختصار: أجر لا يقوم على الاستغلال، ويرتبط بتشريعات الحد الأدنى للأجور.
3- أن تكون منظومة الأثمان السائدة للسلع والخدمات الأساسية (بما في ذلك إيجارات المساكن، والكهرباء، والمياه) متناسبة مع مستويات الأجور النقدية السائدة لذوي الدخول المحدودة، والشرائح الدنيا من الدخل في المجتمع.
الحق في مستوى معيشي مناسب حق كفله الدستور، والاقتصاد الوطني أساسه العدالة الاجتماعية، والهدف من كلّ ذلك تحقيق حياة مزدهرة وبالتالي المحافظة على الأمن الاجتماعي للمواطنين. أدّى انتشار جائحة (كوفيد -19) إلى تفاقم الأوضاع في لبنان، إضافةً إلى تعطيل الأنشطة الاقتصادية، وبطبيعة الحال إلى تعطيل الحياة الاجتماعية للبنانيين، بسبب إعلان التعبئة العامة. مما شكّل تحديات خطيرة لمؤسسات الدولة اللبنانية، وللقطاعات الاقتصادية، لذا ونتيجةً لذلك تدهورت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين بشكل كبير، مما أدّى إلى فقدان بعض الحقوق الأساسية ومنها الحقّ في الغذاء.
لذا لا بدّ من وجود جهد لدى السّلطات في لبنان في الدفع باتّجاه إعمال هذه الحقوق حفاظاً على الأمن الاجتماعي، مقروناً ذلك بدعم من الدول الصديقة للبنان القادرة بمساعداتها إلى منع تفاقم هذه الأزمات، خاصّةً أنّ نسبة الفقر أصبح كبيرة بين الشرائح الاجتماعية اللبنانية في مختلف المناطق. ونختم بقول للإمام علي (ع): «لو تجسّد لي الفقر برجل لقتلته»، كدليل على فداحة هذه المشكلة.