Site icon IMLebanon

إنسوا “الكبّة النيّة” وركّزوا على “دولة النيترات”!

 

لحوم وقمح ولقمة مغمّسة بالدم

  

الأمن الغذائي كان، قبل الرابع من آب هذا، “زفتاً”، أما بعده فأصبح “ضباباً”، وما عاد الناس يسألون حتى: سنأكل أم لا، سنشرب أم لا، سنتعلم، سنسترجع أموالنا، سنعيش أم لا، وما عادوا يسألون حتى، وهم غارقون في الدماء والدمار: وماذا بعد؟ لكن، ماذا بعد أن يستيقظ مَن كُتب لهم العمر؟ ماذا بعد دمار الشريان الحيوي الأول في لبنان؟ ماذا بعد دمار إهراءات القمح وأرصفة المرفأ وموت كثير كثير من العاملين؟ ماذا عن القمح والطحين والمواشي واللحوم المستوردة؟ أسئلة طرحناها…

 

درسنا في التاريخ والجغرافيا عن الجميلة بيروت، ومررنا في فصول الدراسة والخطابات والبيانات على مرفئها، وتوقفنا ملياً أمام تشكّل هذه النقطة الحيوية كملتقى للقارات الثلاث: أوروبا وآسيا وأفريقيا، وعبور أساطيل السفن التجارية بين الشرق والغرب. وكبرنا ونحن نسمع سيمفونية “يا ست الدنيا يا بيروت”. وها نحن، في العراء، بلا سقف وجدران ومال وأمان… لكن هل سنصل، فوق كل هذا، الى وقت نشتهي فيه “لقمة” الخبز و”فرمة” اللحمة؟ وماذا عن إحتياطي القمح واللحم المبرد والمجمد والمواشي الحية في البلاد؟ ماذا بعد دمار أجمل إهراءات القمح في المنطقة وأكثر أرصفة المرافئ حيوية؟

 

قبل حين، قبل الرابع من آب، كان رئيس نقابة تجار مال القبان وتجمع المطاحن في لبنان ارسلان سنو يصرخ، كما كل الآخرين، إيذاناً بعدم إمكانية سداد ثمن الشحنات المستوردة بسبب الأزمة الإقتصادية الخانقة وسرقة الدولة والمصارف أموال التجار. هذا ما كان. فماذا بعد أن كُتب له عمر جديد بعد الرابع من آب؟ هل ما زلنا في مكاننا أم علينا أن نتمنى لو ما زلنا فيه؟ وماذا عن كميات القمح حالياً في لبنان وماذا عن الحلول الممكنة؟

 

بصوتٍ خافت يتحدث سنو، وهو الخارج كما كل البيارتة من الصدمة ويقول: “إجتمعنا في وزارة الإقتصاد صباح الخامس من آب، أي بعد أقل من 24 ساعة على حصول النكبة الفظيعة. إلتقينا و”الدموع في البلد شلالات”. وبحثنا بحالِ الأرض وتأكدنا من سلامة بواخر كانت محملة قمحاً على رصيف المرفأ. وهذه البواخر سيُصار الى إفراغها في مرافئ صيدا وطرابلس والجية، لكن نحتاج الى موافقات وهي، كما تعلمين، تحتاج الى وقت”.

 

خطط جديدة مفترضة

 

موافقات وسماح وجواز ومهل”… لكن ألسنا في وضع يستلزم تجاوز كل الروتين لاستنباط الحلول السريعة؟ يبتسم ارسلان سنو (على مضض) مجيباً: “فليعطونا أموالنا أولاً لنتمكن من ايجاد الحلول”.

 

صحيح أن الدولة أكلت “مال وعرق” اللبنانيين وعادت وشربت من دمائهم لكن “ولاد البلد” يملكون نخوة هائلة، تجعلهم يصمدون ويصبرون ويتابعون. أصحاب المطاحن فكروا بقرارات سريعة. ويقول سنو: “أجرينا جردة بالأماكن الجديدة التي يمكن تخزين القمح فيها بدل الإهراءات التي تحطمت كلياً”. ويستطرد: كنا نعاني أصلاً من ضآلة كمية القمح الموجودة، التي كانت بالكاد تكفي عشرة أيام، لكن بعد الحادث المهول تضامنا مع بعضنا البعض ومن يملك أكثر أعطى من يملك أقل. أعدنا توزيع القمح الموجود. في انتظار انتقال البواخر المحملة الموجودة، التي لا تزال صالحة، الى المرافئ الأخرى أو وصول بواخر جديدة خلال شهرين”.

 

من يضمن أن يكون القمح الموجود حالياً في مرفأ بيروت، في البواخر، سليماً لم يتأثر برواسب نيترات الأمونيوم؟ سؤالٌ مفتوح…

نقيب أصحاب المطاحن يعتبر أن وزير الإقتصاد قد تسرّع حين قال أن لا أزمة طحين ويقول: “أظن أننا سنواجه على المدى القصير أزمة، ربما تُحلّ على المدى الأبعد، لأننا لا نملك احتياطياً في لبنان، وما كنا نخزنه في الإهراءات تطاير وانتهى. في كل حال، مكتب الحبوب ومحمد أبو حيدر، المدير العام لوزارة الإقتصاد والتجارة، والمعنيون، أخذوا أسماء البواخر والمطاحن التي تستورد القمح للطلب من المصرف المركزي تسريع تحويل المال لذلك”.

 

فلندخل أكثر في أسعار القمح. يقول سنو “إن سعر طن القمح 250 دولاراً، ما معناه أن سعر كل ألف طن 250 ألف دولار، ويحتاج لبنان شهرياً بين 35 ألف طن و40 ألف طن تقريباً. وسعر 40 ألف طن نحو عشرة ملايين دولار. وعادة، يفترض أن يكون في الإهراءات مخزون إستراتيجي لا يقل عن ثلاثة أشهر لكن، بفضل الدولة، فقدنا القدرة على تأمين هذا المخزون. وهذا قلص خسائر القمح في الإهراءات. فلحظة الإنفجار الفظيع لم يكن في إهراءات القمح في مرفأ بيروت سوى 4000 طن فقط لا غير”! هل نقول “خيّ”؟ هل نفرح؟ هل نقول للدولة “افرحي بإنجازك”؟ فلو لم يضربنا زلزال هذه الدولة لكان ضربنا الجوع؟ ماذا عن مخزون اللحوم؟ وماذا عن مستقبل إستيراد المواشي الحية بعد دمار مرفأ بيروت؟

 

الرئيس التنفيذي لنقابة اتحاد القصابين وتجار المواشي معروف بكداش يعتذر من اللبنانيين “ما بقا رح تقدروا تاكلوا كبة نيّة”. ماذا بعد؟ يجيب “يستورد لبنان عبر مرفأ بيروت نحو ربع مليون رأس بقر في السنة، ونستهلك سنوياً نحو مليون رأس غنم، ربعها في شكل رسمي ونحو 700 ألف رأس تهريباً من سوريا. تصل الأبقار الى مرفأ بيروت عبر البواخر، وتنقل الباخرة الواحدة نحو 12 ألف رأس، وكان المرفأ، بحسب بكداش، يقدم تسهيلات كثيرة لمستوردي المواشي، على حوض رقم 12، حيث عنبر النيترات. كان يستخدم هذا الحوض، جنب ذاك العنبر، لاستقبال المواشي. والتجار كانوا قد توقفوا منذ عشرين يوماً عن استيراد المواشي الحية، بسبب عدم توافر التحويلات بالدولار. وكانت هناك باخرة واحدة أفرغت ما فيها وتقف قبالة المرفأ منذ عشرة أيام”.

 

هل نقول، فلتفرح الدولة وتهلل بإنجازها؟ نعود لنسأل بكداش: هل يمكننا ان نعلن أن الأمن الغذائي، لناحية توافر اللحوم، أيضا مفقود؟ يجيب: “لم يتأثر القطاع بالحادث مباشرة لأن لا بواخر كانت في المرفأ، ولا بواخر موصى لاستيرادها عبر المرفأ في الأجل القريب. يعني قطاع اللحوم كان مدمراً قبل أن يحصل الدمار الشامل”. يضيف: هناك رؤوس مواشٍ في المزارع المحلية وأصحابها ارادوا ان يتخلصوا منها، فخفضوا اسعارها بعد ان ارتفعت اسعار العلف كثيراً. وهذه الكميات ستنخفض في الايام المقبلة كثيراً. وما يمكن ان يستمر هو بيع اللحوم المجلدة والمبردة، المدعومة من الدولة، وتأتي في مستوعبات. وكان يوجد في المرفأ مستوعبات من هذا النوع لا نعرف مصيرها.

 

 

نقابة اتحاد القصابين وتجار المواشي تعتذر منكم. “لا مواشي حية ستأتي، أقله على المدى القصير، الى لبنان. ليس بفعل “نيترات الدولة القاتل” بل بفعل إهمال الدولة القاتل. وعليكم أن تتناولوا اللحم المبرد والمجلد أو “التهريب” من سوريا. في كل حال، يستورد لبنان الأبقار من أكثر من خمس عشرة دولة بينها البرازيل والأوروغواي وفرنسا واسبانيا وألمانيا ورومانيا وهنغاريا”… وفي هذا الإطار يذكر بكداش: “التوقف عن الإستيراد ليس بسبب دمار المرفأ فقط، لكن بسبب “أكل الدولة أموال التجار”. ويستطرد “في حرب تموز العام 2006 استخدمنا مرفأ طرطوس، ويمكننا اليوم استخدام مرفأي طرابلس وصيدا، لأن البواخر التي تستخدم في الإستيراد هي ملك التجار وهي مهيأة لدخول ميناءي طرابلس وصيدا. فالمشكلة ليست الميناء بل مشكلة “دولار ما في”.

 

الخبز اللبناني بالقطارة

 

و… وقبل ان نضع نقطة آخر السطر. ها هو مرفأ طرابلس يُطمئن اللبنانيين الى “أنه لن يكون هناك أزمة قمح، ووصلت البارحة سفينة محملة بالقمح قادمة من اوكرانيا محملة 5500 طن”. فهل اطمأن اللبناني؟ هل يطمئن؟ هل “شفقة” العالم على اللبنانيين ستخفف من الشروط المفروضة على السداد بسرعة؟ وهل كتب على اللبناني أن يظل يعيش الرعب من كل شيء، كل كل شيء، حتى على لقمته؟ لحوم وقمح ولقمة مغمسة بالدم… على أمل أن يكون الآتي أفضل بعدما فقد كثيرون كل شيء بفعل الدولة “الملعونة”، دولة النيترات! ولنتذكر أن دم الأبرياء لا يذهب، في الآخر، في يوم ما، سدى!