Site icon IMLebanon

السيادة الغذائية: آن أن نقرر ماذا نزرع

  

 

السيادة الغذائية جزء لا يتجزّأ من السيادة الوطنية، والغذاء سلعة أمنية – سياسية أولاً، لا يمكن أن تقوم على مبدأ العرض والطلب فقط، ولا تقاس من خلفية ربحية. لهذا كله، يدعو المدير العام لمؤسسة «جهاد البناء» المعنيين بالشأن الزراعي والبيئي إلى وضع استراتيجية جديدة تضمن الانتقال من الاستيراد إلى الإنتاج، والتخلي عن الزراعات الكثيفة والمدخلات الكيميائية، مقدّماً توصيفاً للواقع اللبناني من تجربة تمتد إلى ثلاثة عقود

 

حصّة المزارع اللبناني من كل ألف ليرة تُدفع ثمناً لأيّ نوع من الخضر أو الفاكهة لا تتعدّى الـ 190 ليرة فقط! وهذا نتيجة نهج أفاد التجّار وآذى المواطنين والدولة والمزارعين، بعدما دُفع لبنان دفعاً، من ضمن بلدان عدة، الى التخلي عن الأمن الغذائي محلياً ودولياً، عبر سياسات اقتصادية أدّت إلى تراجع الإنتاج الزراعي والصناعي والاتكال على الاستيراد، مقابل ارتفاع عدد السكان.

 

ولأن المزارع هو الحلقة الأضعف، ولأن «السيادة الغذائية» واحد من مكوّنات السيادة الوطنية، كان مشروع «أسواق المزارعين» الذي تطلقه مؤسسة «جهاد البناء» التابعة لحزب الله، لدعم المزارعين والمستهلكين وجعل العلاقة مباشرة بينهما من دون وسيط. المشروع سيبدأ بثلاثة أسواق في المرحلة الأولى، في كل من الضاحية الجنوبية لبيروت (افتُتح أمس) وصور والهرمل.

يلفت المدير العام للمؤسسة المهندس محمد الخنسا إلى أن فكرة السيادة الغذائية، «نشأت في عام 1993 عبر منظمة viacampesina، وتكرّست في إعلان نيليني في مالي عام 2007. وهذا المفهوم ليس معنيّاً بتأمين الاكتفاء الذاتي للشعوب فحسب، بل في عدالة التوزيع ووصول الغذاء بشكل متوازن إلى الجميع». وكان الإعلان بمثابة دقّ ناقوس الخطر، لدفع «كل دولة أو مجتمع لإنتاج غذائه وطعامه بنفسه، ويقرّر ماذا ومتى وكيف يزرع ويأكل ويستورد، وليس الشركات الكبرى والمصالح الدولية». ويوضح أنه، في العقود الأخيرة، «تكوّن لدى الدول الكبرى توجه لتقاسم إنتاج الأغذية، ودُفعت الدول الصغيرة نحو إنتاج سلع غير أساسية، أو ما يسمى بالمحاصيل النقدية، كالخُضر والفاكهة، مقابل استيراد السلع الأساسية من الدول الكبيرة». بعد أزمة كورونا، وقبلها في الأزمة المالية العالمية، «كسدت المحاصيل النقدية وخسرت قيمتها، وبدأ كل شعب يفكّر بنفسه، فتوقف تصدير المحاصيل الأساسية أو رُفعت أسعارها وبدأ استخدامها سياسياً». وعلى مستوى لبنان، كانت الضربة مضاعفة، فـ«نحن نستورد 85% من السلع الأساسية، وسياسة تثبيت سعر الصرف كانت تخفي الأزمة. الآن انكشف كل شيء وصرنا مهدّدين بخطر الجوع». لكن بالتوازي، «أحدثت الصدمة انزياحاً في الوعي، وصار هناك اهتمام على مستوى المجتمع بالبحث عن السيادة الغذائية مكان الربح السريع والاستهلاك»، إذ أن «الغذاء ليس سلعة عادية، إنّما سلعة أمنية – سياسية أولاً، ولا يمكن أن تقوم على مبدأ العرض والطلب، أي أنني أختار الاستيراد بأسعار أقلّ على الإنتاج بأكلاف أعلى. فالمحاصيل الأساسية هي سلع سيادية ولا تقاس من خلفية اقتصادية ربحية». والمفارقة، أن الدول «الليبرالية»، التي تروّج أفكارها في لبنان وغيره، «تنصحنا بالزراعات النقدية، فيما تفرض قيوداً صارمة على زراعاتها. وأخيراً فقط أقرّ الاتحاد الأوروبي في استراتيجيته مبدأ from farm to fork، أي من الأرض إلى المائدة، بعد الشعور بالخطر جراء كورونا». ويشير الخنسا إلى أن «هناك عشر شركات عالمية تسيطر على الغذاء وتفرض على البشر عادات غذائية وتتحكم بموائدهم ومحاصيلهم. فالكورن فليكس، مثلاً، من بقايا الحبوب، وتحفل به الموائد بأسعار مرتفعة تعود بالنفع على الشركات الكبرى، فيما يمكن إنتاجه محليّاً من حبوب كاملة. مقاربتنا هي تغيير كامل للسياسة المتّبعة في الإنتاج والاستهلاك والعادات الغذائية».

الخنسا الذي عمل إلى جانب وزير الزراعة السابق حسين الحاج حسن، يشير إلى «أننا حاولنا جاهدين الدفع نحو تبني الدولة إنتاج الحبوب، لكن المشروع اصطدم بعقبات عدة، أولاها إدارياً. فالحبوب، مثلاً، من اختصاص وزارة الاقتصاد، والتبغ من اختصاص وزارة المالية. في أي دولة أخرى، الجهة المسؤولة واحدة من البذور إلى المائدة».

 

الترويج لعدم صلاحية الزراعات العضوية وراءه كارتيلات الأسمدة والمبيدات

 

 

ولكن، هل يمكن أن يكون للبنان اكتفاء زراعي ذاتي؟ في رأي الخنسا، بأنّ «من يتذرّعون بضيق المساحة يريدون تكريس سياسات الاستيراد. نعم المساحات الموجودة يمكن أن تؤمّن نسبة كبيرة من الاكتفاء الذاتي إذا وضعنا مقاربة زراعية وغذائية جديدة، بعيدة عن لعبة التجارة الدولية». أما في ما يتعلق بأزمة المبيدات والسموم وتلوّث الغذاء، فيشير الخبير الزراعي إلى «أننا ندعو منذ سنوات إلى الزراعة ذات المدخلات المنخفضة ووقف الزراعة الأحادية، وخصوصاً أننا نستورد كل شيء من البذور إلى الأسمدة المسموحة والممنوعة. ونحن لا نرى أن نظام الزراعة المكثّفة هو نظام مستدام، ليس في لبنان فحسب إنّما في كل دول العالم. هناك آثار صحية واقتصادية وكارثية علينا وعلى دول كثيرة غيرنا وعلى البيئة والطبيعة في العالم بشكل عام». ولفت إلى أن «جهاد البناء» تركّز على العمل الإرشادي منذ 30 سنة، «لدعم صمود المزارعين وتوجيههم نحو الحدّ أو وقف استخدام الأسمدة الكيميائية والمبيدات والاستناد إلى السماد العضوي، وتبنّينا سياسة الإدارة المتكاملة للمحاصيل، وصولاً إلى الزراعة البيولوجية. في لبنان خبراء اقتصاديون يرون أن لبنان ليس جاهزاً لمثل هذه الزراعة بعد. لكننا نعتقد العكس. الزراعة العضوية تؤمّن حيّزاً كبيراً من الإنتاج والسيادة الغذائية، والترويج لغير ذلك وراءه مصالح شركات كبرى، لأن حجم سوق المبيدات والأسمدة والبذور التجارية في العالم يبلغ نحو 243 مليار دولار، فيما لا يتجاوز سوق الأسمدة العضوية الـ 7 مليارات»، لافتاً إلى «أننا لا ندعو إلى الانتقال الكامل إلى الزراعة العضوية (ولو كنا نرغب في ذلك)، ولكن ندعو إلى فتح المجال أمام هذا القطاع ودعمه والتشجيع عليه ووقف عرقلته بسبب مصالح كارتيلات المبيدات والأسمدة».

 

الإنتاج الحيوانيّ

لا يختلف المشهد كثيراً في قطاع تربية الحيوانات، حيث يعاني لبنان من نقص في أعداد القطعان وزراعة الأعلاف. يلفت الخنسا |إلى «أن نسبة استيراد اللحوم تبلغ 80% من اللحوم أو المواشي للذبح، و50% من مشتقات الحيوانات البيضاء وحوالى 100% من الأجبان الصفراء والزبدة، وحوالى 80% من الأسماك. كان هناك شبه اكتفاء ذاتي في الدواجن، لكن المشكلة في أن الأعلاف مستوردة». لذلك لا بدّ الآن من العمل سريعاً على «توسيع القطيع بخطة مستدامة كما فعلت سوريا ووقف الاستيراد الذي يتمّ عبر الكارتيلات، وتربية الأغنام والماعز أربح من وضع الأموال في البنوك». أما الأعلاف «فلا بدّ من إيجاد أعلاف بديلة من ضمن توجّه الزراعة المستدامة، ونحن في المؤسسة بدأنا بذلك. فمن يقول إن الدجاج يجب أن يأكل ذرة وصويا، فهذا سببه الدعاية العالمية التي فرضها الأميركيون بعد الحرب العالمية الثانية». ويكشف «أننا بدأنا مشروع خيارات بديلة لتربية أصناف من السمك والطيور مثل الفرّي لتعويض النقص الذي سيحصل في البروتينات، ومع ذلك، يجب أن نتعاون جميعاً لتغيير العادات الغذائية نحو سلوك صحي ومستدام».

 

«جهاد البناء» من الترميم إلى الزراعة

تأسّست مؤسسة «جهاد البناء» عام 1988، بأهداف أساسية هي ترميم الأضرار الناتجة من الاعتداءات الصهيونية، التنمية المستدامة، تطوير كفاءات المزارعين، دعم ثقافة العمل الجماعي والتضامن الاجتماعي ونشر الوعي البيئي. وكانت بدايات عمل الجمعية بترميم الأضرار التي تسبّب بها انفجار بئر العبد عام 1985، لتكرّ سبحة إزالة آثار العدوان الإسرائيلي، ولا سيما في حرب تموز 2006. وتعمل المؤسسة على تطوير القطاع الزراعي بشقَّيه النباتي والحيواني (بيادر الخير)، وتطوير وتمكين العمل التعاوني (تعاونوا)، وتنظيم معارض المونة والمُنتجات الزراعية والحرفية (أرضي)، والتدريب والتطوير والرعاية للمهنيين والحرفيين (حاضنة الأعمال). وفي القضايا البيئية، تعمل المؤسسة على مكافحة ظاهرة التصحّر (الشجرة الطيبة) وتفعيل القضايا البيئية (المحيط البيئي).