IMLebanon

لكل بلدة أكلتها وأطباقها وكبّتها ومجدّرتها

 

وما يجمعه الكشك لا يفرّقه إنسان

 

بقدر ما يشهد لبنان تنوعاً في طوائفه وأحزابه يشهد تنوعاً أشهى في مطبخه وأكلاته التقليدية. فالفسيفساء اللبنانية التي تغنوا بها طويلاً تجد وجهها الأطيب، لا في الاختلافات الثقافية والسياسية التي نشهدها يومياً بل في التنوع الواسع في مطبخها الذي يختلف باختلاف مكوناته وناسه ومناطقهم. هنا تكاد تغيب الطوائف لصالح التاريخ المشترك للمنطقة الواحدة وتقاليدها الشعبية الراسخة في الزمن ويتحول الصراع الخفي بينها الى صراع بطون وصحون تغذي ناره النكهة الطيبة.

منذ مدة غير بعيدة شهد موقع تويتر حرباً ضروساً بين ” متاولة الجنوب” و”شيعة بعلبك” تمحورت حول الكشك والمكدوس وأي المنطقتين ملكة متوجة عليهما. فالأكلة الواحدة تتخذ شكلا ومذاقاً مختلفاً تبعاً لخلفيتها المناطقية، ولكن كما يثير تزعّم الأكلات تنافساً بين مناطق لبنان وقراه، فإن المطبخ المشترك يوحد بين المكونات الإنسانية المختلفة لهذه المناطق. الأكلات الجبلية على سبيل المثال تجمع بين الدروز والمسيحيين في جبل لبنان فيما أكلات ساحل المتن الجنوبي توحّد بين مسيحييه وشيعته. والأمثلة على ذلك كثيرة فلا طائفية في الطعام ولا عقيدة سوى الطعم والنكهة (بالإذن من زياد الرحباني وطائفية البرغل) والاختلافات إنما تنجم عما تنبته الأرض من مكونات وما تعطيه من لحوم. وتتأثر المناطق بطباع أهلها، فأهل الجرد مثلاً المعتادون على قساوة الطبيعة وشدة العمل اليدوي يفضلون تناول الحبوب والمجدرة والفاصوليا والحمص والعدس على المأكولات السلسة الراقية التي اعتمدها أهل بيروت، فيما أبناء المدن الساحلية يفضلون المأكولات المطهوة بالزيت مثل البامية واللوبية والهندباء ويتركون اللحم للمناسبات. أهل البقاع من جهتهم والقرى الجبلية العالية يحبون الدهون والشحوم في أكلاتهم لينعموا بالدفء الذي تولده هذه المأكولات الغنية بالسعرات الحرارية.

 

وتتأثر المناطق بجيرة بعضها البعض فالجار قبل الدار والمناطق الحدودية مثلاً لا سيما في الشمال وعكار أخذت من جيرانها، حلب واسكندرونة، العديد من الأصناف بمكوناتها واسمائها مثل الكباب واليلنجي كما ترك الحكم العثملي بصماته على أطباق عدة في مختلف المدن الساحلية مثل البابا غنوج والعثملية وغيرها وصارت من التراث. حتى البيتزا القادمة من بلاد الطليان تلبننت وتلونت بتلون المناطق فالبيتزا الجنوبية حلال، أما البقاعية فمقاديرها مزدوجة حتى تكون شبيعة. والسجق ضيف عزيز عليها في برج حمود حتى الزعتر المستخدم فيها تختلف نكهته بين منطقة واخرى.

 

 

فتة الوالد بين الحمص والكراعين

 

حين كنا صغاراً في قرية المريجة الساحلية (قبل أن تصبح الضاحية حالياً) كان والدي، على خلاف رجال جيله، يهوى تحضير الطعام لا سيما الأكلات القديمة التي ورثها عن أمه. وفي تقليد عائلي كان يوقظنا باكراً صباح يوم الأحد لنتناول الفتة المحضرة في صينية واسعة. وفتة والدي هي فتة الحمص باللبن المحبوبة في قرى الساحل أجمعه مع الصنوبر المقلي بالزبدة على وجهها والخبز المحمص. لكن فتة الوالد على طيبتها لا تقارن بفتة المقادم أو الكوارع الأكلة البيروتية الفاخرة التي يتباهى البيارتة بتحضيرها لا سيما في شهر رمضان وقد يدعّمونها بـ”الأبوات” أو الفوارغ المحشوة باللحم يتناولونها في المناسبات المميزة. وتختلف فتتنا كذلك عن فتة الباذنجان او “التسقيّة” التي تعرفت إليها منذ زمن غير بعيد والمعروفة في بعض قرى الشوف والمتن التي تحضر بقطع الباذنجان المقلي مع اللحمة المفرومة واللبن والخبز المقلي. والجامع بين كل أنواع الفتة هو اللبن والصنوبر المقلي الذي بات اليوم كحبوب الألماس نادراً وغالي الثمن تمت الاستعاضة عنه بشرائح اللوز.

 

ومن أكلات والدي القديمة التي اعتدنا عليها صغاراً الحراق أصبعو. وهي أكلة يجهلها معظم أبناء جيل اليوم وتكاد تنقرض من لائحة مأكولاتنا. أكلة شامية الأصل لكنها تحضر في لبنان بشكل مختلف ويمكن تسميتها بمعكرونة الفقير. كانت صلصتها تحضر كصلصة البولونييز في معكرونة اليوم أي باللحم المفروم المقلي مع البصل والبندورة المقطعة او رب البندورة وحين تغلي الصلصة تجتمع العائلة حول المائدة وتصبّ مغلية في جاط عميق وتضاف إليها قطع الخبز المحمص ثم تسكب في صحون واللهبة تتصاعد منها حتى إذا حاول أحدهم أن يأخذها باصابعه تحترق ومن هنا أخذت اسمها الغريب. وغالباً ما كان الخبز اليابس يتحول الى أكلة شتائية شهية تجمع حولها العائلة.

 

صولات العدس وجولاته

 

ومن الأكلات الشتائية الشبيهة بهذه أكلة الرشتا بعدس التي تتميز بها زحلة وبعض القرى البقاعية. فهي تؤكل ساخنة لتدفئ الصغار والكبار في ايام البرد البقاعي القارس. والرشتا عبارة عن عدس مسلوق مع البصل المقلي تضاف إليه قطع عجين متطاولة الشكل ( حلت محلها اليوم قطع التالياتيلي الجاهزة لتسهيل الأمور على النساء) بعد أن تسلق بالماء حتى تنضج وتنكّه بالثوم والكزبرة وعصير الحامض. وتؤكل الرشتا بالعدس ساخنة جداً مثلها مثل العدس بوشوشة وهي أكلة تتميز بها قرى أعالي المتن الشمالي وبعض قرى الشمال حيث تترك حبوب العدس كاملة لتنضج وتضاف إليها قطع القلقاس الأبيض المسلوق الذي يقال له بوشوشة مع الثوم والكزبرة وعصير الحامض لتشكل منافساً قوياً للرشتا.

 

وللعدس صولات وجولات في المناطق اللبنانية قد تتطور الى معارك حقيقية في بعض الأحيان. فهو لحمة الفقراء ومسامير الركب والمجدرة كالعلم اللبناني تجمع حولها اللبنانيين لكن ألويته تفرقهم. فلكل مجدرة لواؤها ولونها ومنطقتها: مجدرة مصفاية في جبل لبنان، مدردرة في كسروان، شوربة عدس في الشوف والجبل، ومجدرة صفرا مجروشة في بيروت ومجدرة حمرا في الجنوب. ولهذه الأخيرة محازبون يحملون لواءها ويدافعون عنها بوجه كل أشكال وأنواع المجدرات. كيف لا وهي من أشهر وأطيب الأكلات الجنوبية. المجدرة الحمرا لا يعرفها البيارتة وأهل الجبل او الشمال هي اختصاص جنوبي تتغنى به كل قرية في الجنوب وتتفاخر كل ربة بيت بالتميز في تحضيره. عبارة عن عدس صغير تقلّى معه كمية من البصل حتى تحمر وتكاد تحترق وهو ما يمنح المجدرة لونها الأحمر ويضاف إليها البرغل بدل الأرز وتترك على نار هادئة حتى تنضج من دون ان يخبص العدس. وقد يذهب بعض الجنوبيين في حماسهم الى القول أن المجدرة الحمرا اطيب من الفريك او القمح الأخضر الذي “يفلفل” مع الدجاج في طبق فاخر وشهي لا يعرفه أهل المناطق الأخرى رغم انه ينافس في طعمه اشهى أكلاتهم.

 

بالانتقال الى الشمال يبقى الإسم ويختلف الشكل والطعم، فالمجدرة في الكورة تصبح مجدرة فاصوليا يغيب عنها العدس ولا يشنق البرغل حاله بل يتربع بدل الأرز في صحن مجدرة يصعب على غير الأقوياء من أهل هذه المنطقة هضمه.

 

هيدي الكبّة كبتنا

 

وإن كان للعدس صولاته، فللكبة أربابها ولا يختلف اثنان (بل ربما يفعلان) على ان الكبة الزغرتاوية هي ملكة الكبة. أقراص كبيرة محشوة بالشحم او بليّة الغنم ومشوية على الفحم تُفتح فيسيل منها الدهن بعد ان تكون قد تشربت قدراً منه. وسر هذه الكبة الشهية لا يكمن في طعمها الغني بلحمة الضأن او البقر المدهن فقط بل في براعة صنع أقراصها التي تتحدى القواعد الهندسية لتحافظ على انتفاختها وقد يعصى صنع الكبب الناجحة على الكثير من الشابات الزغرتاويات اليوم اللواتي يستعضن عنها بالكبة بالصينية بطبقة واحدة مع جوانح البصل والصنوبرعلى وجهها او بطبقتين مع حشوة اللحم في وسطها. كبباً، اقراصاً او بالصينية، تبقى الكبة الطبق المفضل في زغرتا واهدن على ان يتم خبزها في فرن الضيعة على طريقة الجدات.

 

والكبة تراث لبناني يمتد على امتداد مساحة الوطن من الشمال الى الجنوب فالبقاع والسهل والجبل. والكبة النية فولكور نتغنى به أمام العالم أجمع و نتفنن في مدح فضائله “كبة كبة كبتنا هي يلي ربتنا هي صيرتنا كبار ولولاها كنا متنا “. لكن إن وحّدتنا أمام الأجانب فهي تفرقنا في تسمياتها وطرق تحضيرها. من دون البرغل هي “تابلة” في بعض المناطق و”لحمة مرهمة” في مناطق أخرى وهي “ملسة” في الجنوب و”مدقوقة” في البقاع. اما مع البرغل فهي كبة نية فقط. والكبة النية قد يضاف إليها المردكوش في الشمال أو الدقّة البعلبكية أو التحويجة البقاعية والكمونة الجنوبية. أما هذه الأسماء الغريبة على أهل الساحل وبيروت فهي منكهات تضاف الى الكبة لتمنحها طعماً فريداً يختلف من منطقة الى أخرى. يتباهى أهل الجنوب بالكمونة وهي مزيج من الحبق والمردكوش والنعنع والكزبرة والحر الأحمر مع الكمون المطحون والقرفة والملح والفلفل، يضاف إليها البرغل وتمزج مع لحمة العجل النية والبصل المفروم وتدعك باليد وتقرص في جاط مع زيت الزيتون على وجهها وحينها يتحول اسمها الى الفراكة اي الكبة المفروكة. وللكمونة الجنوبية استخدامات أخرى فقد توضع الى جانب اللحمة الملسة او قد تؤكل مع البندورة النيئة او المشوية وتصبح عندها كمونة بندورة ولها الكثير من المحبين. وفيما يتغنى أهل الجنوب والبقاع بتحويجة الكبة هذه يرى فيها أبناء الساحل إضافات تنزع نكهة الكبة الأصلية.

 

رغم تربع كبة الغنم على عرش الكبة فإن لها أقارب فقراء في بعض المناطق اللبنانية ولا سيما المسيحية منها. فالمسيحيون الذين يقطعون الزفر في الصوم الكبير وجدوا للكبة بدائل، أقل دسماً بلا شك، لكنها ليست أقل لذة. فمن كبة الحيلة الى كبة الراهب وكبة اللقطين والبطاطا تتنوع الأسماء والمكونات من الشمال الى جبل لبنان وزحلة لتكون منافسأ صيامياً مستور الحال للكبة التراثية.

 

كشك بزيت وكشك بدهن

 

إذا كانت الكبة “إمّنا” فالكشك بي الأكلات اللبنانية يجمع المناطق وأهلها ويوحد بينها، حتى ولو كانت العاصمة تتعالى عليه وتترفع عنه مدن الساحل مثل صيدا وصور. فالكشك عموماً أكلة جبلية لأنها تصنع من لبن الماعز الذي يعيش في الجبال. والكشك يحتاج الى عونة لتحضيره فهو عمل جماعي أما التنابل فلا يتكلفون عناء المشاركة في صنعه بسبب كسلهم وقلة مروتهم ومن هنا اشتهر المثل القائل “الكشك محرّم على التنابل”. ولكن حتى التنابل يحلفون باسمه في البقاعين الشرقي والغربي كما في قرى الشوف الأعلى وأعالي كسروان وقرى الجنوب كافة. كلهم يتنافسون على صنع أطيب كشك ويتباهون بالحفاظ على الطرق التقليدية لصنعه حتى اليوم. أما تحضيره فتلك قصة مختلفة وما بين القورما والدهن وراس العصفور واللحمة المفرومة تختلف الطرق من منطقة الى اخرى ويرتفع منسوب الدهون كلما اتجهنا صعوداً نحو الجبال.

 

لكن الكشك في قرى المتن الأعلى وعاليه يتخذ ثوباً رشيقاً بالزيت ويبتعد عن الشحم واللحم ليتحول مع الهندبة الخضراء الى سلطة فريدة تميز هذه المناطق فتتبل الهندبة بالحامض والزيت ويرش الكشك على وجهها ويزين بالبصل المفروم وبحبات الرمان اللفاني الحامضة. وتتأرجح مناطق الجبل الدرزي بين الرشاقة والدسم فسلطة الهندبة بالكشك تواجهها التبولة بدهن. ولا شك أن معظمنا لم يسمع يوماً بهذا الإسم. فالأكلة فريدة ولا تحمل من التبولة إلا اسمها أما مكوناتها فهي البرغل المدعوك بالدهن والبصل المفروم يُطبخ على النار ويؤكل بورق الملفوف المسلوق. والى دسامة هذه الأكلة تضاف أخرى تتميز بها قرى الجبل هي البطاطا بالدهن حيث تسلق البطاطا وتهرس وتجبل بالدهن السائل والبهارات وتؤكل ساخنة بالخبز.

 

اما بحمدون وهي القرية الأورثوذكسية الشامخة وسط قرى الجبل فتتعالى على الجميع بهريسة اللحم والعضم التي تعدها في القدور الكبيرة لتغلي على نار خفيفة ليلة عيد السيدة فيتهافت على تناولها كل ابناء المنطقة.

 

الله لا يغمّكن

 

إذا كان للقرى الجبلية اختصاصاتها فمدن الساحل وقراه لا تقل عنها تميزاً في أكلاتها. وهل أعظم وافخم وادسم من الغمة “الله لا يغمّكن”؟ والغمّة لمن لا يعرفها هي الفوارغ والكروش والكراعين وقد يضاف إليها راس الغنم واللسانات. وهذه أكلة تتفوق على كل ما عداها صعوبة حتى لتكاد تنقرض في أيامنا هذه. فمن تجيدها من ربات البيوت يحق لها أن تتفاخر ويسجل لها إنجازها هذا. وفي حرب “الغمام” غير المعلنة بين المتن والساحل تأتي النتيجة متعادلة إلا لمن يفضلون لوناً على آخر. فغمة المتن حمراء فيما غمة الساحل صفراء. الأولى برب البندورة والثانية بالعقدة الصفراء وفيما يفضل المتنيون الفوارغ الرفيعة يميل أهل بيروت الى الأبوات أوالفوارغ الثخينة ويتجنب هؤلاء حشوة ام “سبع طوابق” وهي جزء من كرش الخروف لأسباب مختلفة فيما لا يجد ابناء ساحل الشوف ضرراً من ضمها الى الغمة.

 

وبالحديث عن الخروف لا يمكننا أن ننسى ما للمعلاق من قيمة في بيروت وقرى الساحل والكثير من قرى الجبل. فهو سيد الأكلات بقصبته وفشّته وحلاواته وكلاويه. ولمن لم يسمع هذه الكلمات سابقاً، فليعلم أنها أجزاء من رئتي الخروف وكبده يأكلها اللبناني بلذة وشهية ويسابق غيره في الحصول عليها صباح يوم الأحد.

 

وتطول لائحة الأكلات المناطقية ويحتدم الصراع بينها أحيانا، فيتبارى أهل بيروت مع أهل طرابلس مثلاً حول السمكة الحرة. فالسمكة الحرة البيروتية تحضّر بالطحينة وعصير البو صفير والبندورة والحر الأحمر فيما السمكة الحرة الطرابلسية تستخدم الجوز المطحون والكزبرة والحر بطعم مختلف تماماً. أما الأرنبية فأكلة بيروتية بامتياز على الرغم من منافسة صيداوية حثيثة، خاصة وان الأرنبية تستخدم عصير البو صفير الذي يكثر في السهول الساحلية. وهي أكلة فاخرة تجمع لحم الموزات وعضمه الى أقراص الكبة والمرق المكثف بالطحينة وعصير الحامض والبوصفير مع البصل والحمص.

 

تكثر الأسماء والنكهات وتحفر عميقاً في القلب والذاكرة. أكلاتنا طفولة نستعيدها على موائدنا وفي صحوننا حتى وان لم نحبها في طفولتنا. هي ذاكرة البيت والضيعة والوطن… على أمل الا تسرقها حياة اليوم.