أواخر الشهر الماضي، جاء في الأنباء أن حكومة الباراغواي أوقفت متحدرين من أصل لبناني، حرمتهم جنسية حصلوا عليها منذ ثمانينات القرن الماضي، وأحالتهم إلى القضاء وصادرت ممتلكاتهم، والتهم: اتجار بالممنوع، وغسل أموال لصالح «حزب الله»، وميليشيات الحرس الثوري الإيراني. وفي أول سبتمبر (أيلول) تم الإعلان في اليمن عن مقتل أحد القادة الميدانيين للحزب، بعد أيام على توزيع فيديو يبرز جانباً من الدور الميداني الذي يقوم به «حزب الله» في تدريب جماعة الحوثي. سبق ذلك تعمد الحزب المذكور توزيع صور عن استقبال أمينه العام حسن نصر الله لوفد حوثي، في مقره في الضاحية الجنوبية لبيروت. وشكّل الذروة في هذا المنحى بيان كتلة «الوفاء للمقاومة» النيابية، في 30 أغسطس (آب) الماضي، الذي دعا «لبنان، حكومة وقوى سياسية» للاستفادة من تطورات الأوضاع في المنطقة، لـ«مراجعة تموضع لبنان الاستراتيجي»، وإعادة النظر في بعض علاقاته الإقليمية والدولية (…).
ببساطة كلية، مع بداية فرض الحزمة الأولى من العقوبات الدولية على نظام الملالي في طهران، واتساع تهاوي العملة الإيرانية، وانفجار الهبة الشعبية وتواصلها وشمولها كل المدن والأعراق، وانعكاس ذلك على المتحكمين، الذين إلى جانب عمليات القمع والاعتقالات الواسعة، راهنوا على خداع المنتفضين وحرف أنظارهم عن مكمن الفساد وأصل الداء، فأطلقوا عملية مبرمجة أدت إلى إسقاط أبرز وزراء الرئيس روحاني، المهدد شخصياً بالإقالة. وبالتوازي تكثفت عمليات تجفيف مصادر تمويل الميليشيات، التي تتعرض لحصار لافت في سوريا، بعد إبعادها عن الجنوب ودمشق والغوطتين، بهدف تقزيم دورها ونفوذها.
وتقابل ذلك الصفعة المدوية التي وجهها البرلمان العراقي للمندوب السامي الإيراني قاسم سليماني، ببلورة أكثرية نيابية وازنة ترفض هيمنة طهران، وهي أكثرية تعلن أن أولويتها كسر حلقة الفساد المستشري، وإخراج العراق من محاصصة مقيتة وتبعية فاجرة، وتعلن بلسان الرئيس العبادي أن الأولوية هي خدمة مصالح الشعب العراقي، وليس إيران أو أي دولة جارة للعراق.
يأتي «حزب الله» وبشكل سافر ومن موقع «مرشد الجمهورية» لـ«ينصح» بتحديد خيارات جديدة تجرُّ لبنان كلية إلى المحور الإيراني، وتشطب نهائياً مبدأ «النأي بالنفس»، الذي لم يحترمه الحزب، رغم أن التسوية السياسية المفروضة أصلا قامت عليه!
ما كان يتردد همساً بات علانية، والدعوة تستند إلى فائض سلاح الحزب المتغلغل في كل مفاصل قرارات السلطة اللبنانية، وهو، باختصار شديد، دعوة إلى خطف لبنان ونقله من موقعه الطبيعي، لإلحاقه بالمحور الممانع الذي تقوده طهران. والمراجعة تعني حكومة جديدة يتبنى بيانها الوزاري مواقف الحزب وسياساته التي حوّلت لبنان إلى منصة عدوان على الأشقاء والأصدقاء، خدمة لأجندة الحرس الثوري، مؤكداً شروطه، بما لا يدع مجالاً للشك، من أن أولوية أولويات «حكومة العهد الأولى» الالتحاق بالنظام الإقليمي الجديد الذي تقوده طهران. وما يثير كثيراً من الأسئلة ما جاء في خطاب الرئيس نبيه بري في 31 أغسطس الماضي، من دعوة إلى التطبيع مع النظام السوري، والتضامن مع إيران في وجه العقوبات، بحيث بدا وكأنه التتمة لمواقف كتلة «الوفاء للمقاومة» النيابية التي تبرعت برسم الخط الاستراتيجي للبنان!
إنه لبنان آخر يريد «حزب الله» أخذ البلد إليه. خروج بالإكراه للبنان من موقعه ودوره، وتنكر لكل ما ميّز هذا البلد منذ الاستقلال، وهذا الأمر هو بالضبط ما أراده نصر الله منذ بداية التدخل السافر في الحرب على الشعب السوري، عندما أعلن أن المؤثر في الإقليم مؤثر في الداخل اللبناني، ويتصرف مع البلد وأهله على أن محوره هو المنتصر، ونقطة على السطر. هذا مع العلم أنه من المبكر الحديث عن نهايات، مع أن الواقع الراهن من صنعاء إلى بغداد مروراً بدمشق، يؤكد أن الأحداث في حركيتها لا تخدم الأشرعة الإيرانية، والثابت أنه كلما اقتربت الحرب السورية من نهايتها، كما الحال اليوم، يتراجع دور طهران ونفوذها، مع تراجع الحاجة لهذه الميليشيات الطائفية وتحولها إلى ضيف ثقيل على المائدة الروسية، فيضغط «حزب الله» لخطف لبنان وكأن البلد جائزة ترضية لإيران وفريقها، وأن هذا الفريق يستطيع القفز فوق رأي غالبية كبيرة من اللبنانيين، ومن كل الطوائف، لا ترى ما يراه الحزب، وتحذر وترفض المصير البائس الذي يُدفع إليه لبنان.
انتظر اللبنانيون في الأول من سبتمبر (أيلول) كلاماً لرئيس الجمهورية وعد به قصر بعبدا، وتم الترويج لفذلكات قيل إن منطلقها روح الدستور، وقيل الكثير عن الآتي بعد هذا اليوم، ومر هذا اليوم عادياً؛ لكن المعطيات تشي بأن الشهر الجاري مُرجح أن يكون أشبه بما سبقه لجهة تأليف الحكومة الجديدة، سيما أن الرئيس عون رفض مساء الاثنين صيغة متكاملة لحكومة ثلاثينية، كان الحريري قد وصفها بأنها تراعي التوازنات الداخلية والخارجية. وما أسبغ قتامة على المشهد تمثل في البيان الصادر عن القصر الجمهوري، وفيه حديث عن «مسلّمات حددها رئيس الجمهورية»، ما يعني مساساً معيناً بصلاحيات الرئيس المكلف.
هذا التطور أثار السؤال المقلق وهو: هل يطفئ رئيس الجمهورية شمعة العام الثاني من ولايته في 31 أكتوبر (تشرين الأول)، والبلاد من دون حكومة؟ هنا تُردد أوساط الرئيس المكلف مقولة مفادها بأن الرئيس الحريري الذي أعلن عن لاءات ثلاث: لا مهلة لمهمتي، ولا لتحريف الدستور، ولا اعتذار، نجح في إحداث توازن ما مع الفريق الممانع لجهة ربطه التأليف بالتمسك بـ«النأي بالنفس» وتحييد لبنان الرسمي عن الأزمة السورية.
قبل أيام قرعت مجلة «الإيكونوميست» جرس الإنذار للبنان، وبشكل خاص لأهل السلطة الممسكين بالحكم منذ نهاية الحرب الأهلية، ونبهت من خطر استمرار انتفاخ الدين العام بسبب عجز الخزينة المتنامي، ولفتت إلى أن الاقتصاد يختنق، والاستقرار النقدي مهدد، والأولوية يجب أن تكون إنقاذ الوضع الاقتصادي. بمعنى أن المسؤولية واضحة على أصحاب القرار لجهة السياسات الواجب اتباعها، ودور لبنان الذي ينبغي استعادته والحفاظ عليه، وأن هذا الصراع على الحصص وتأجيج العصبيات الطائفية المنفلتة لتغطية منحى الاستئثار، لن يفيد لبنان؛ لأنه مع هكذا تحالف حاكم لن يبقى شيء لتحاصصه، أما الكارثة الكاملة التي يمكن أن يُدفع إليها البلد، فهي المتمثلة بفرض أخذ لبنان حديقة خلفية للتخفيف من تأثير الحصار والعقوبات على إيران.