لا سوق “أبو رخوصة” سيعيد وسط بيروت إلى يوميات اللبنانيين، كما يزعم منظموه، ولا ادعاء الشعور بالغربة سيخرجه منها. فالزعمان قديمان قدم إعادة بناء قلب العاصمة، وقدم العداء لإعادة المدينة منطقة حياة العائدين من معازل الحروب المتعددة.
بين ولادة اتفاق الطائف وترؤس الشهيد رفيق الحريري حكومته الأولى، 3 سنوات، لم يُقْدم خلالها، أي من الحكومات الثلاث المتعاقبة، برئاسة سليم الحص وعمر كرامي ورشيد الصلح، على تبني أي نهج لإعادة البناء، بحجة من أين نبدأ؟
كان ذلك يسهل مهمة نظام الوصاية الذي أراد للبنان أن يظل مهمشا، في العالم وفي يوميات اللبنانيين، وأن يظل في عقلهم الباطن اقتناع بانهم منفصلون، لا متصلون، فكانت الكلمة الأكثر تردادا في حواراتهم، هي المشتقة من فعل “قطع”: فهذا “يقطع” من “الشرقية” إلى “الغربية”، وذاك “يقطع” في الاتجاه المعاكس. وكان همّ الحريري أن يردم الهوة غير المرئية التي تبعد بينهم، من الجميزة إلى السراي الكبير، ومن بشارة الخوري إلى البحر، ولم يكن ذلك ممكنا من دون مخطط يدمج عراقة بيروت برؤيوية الآتي. كما لم يكن ممكنا من دون فكرة عبقرية تخرج إعادة بناء هذه البقعة العزيزة، تاريخا ومغزى، من تناحر أولويات إعادة البناء، بحفظ حقوق المالكين والمستأجرين، وتوفير رأس المال اللازم من مستثمرين خاصين، لتكون الجدوى والفائدة مشتركة للطرفين، بنسبة ثلثين للأولين إلى ثلث.
بدأت الحملة على إعادة بناء وسط بيروت قبل أن يقره مجلس النواب، وكان أحد عناوينها البارزة أنه سيكون للأغنياء وحدهم. وهو ما كذبه الواقع حين عج هذا الوسط في السنوات اللاحقة، وحتى بعد اغتيال الحريري، ثم شهداء ثورة الأرز، برواد من مختلف الطبقات والمناطق. ولم تنجح محاولات اغتيال قلب العاصمة، تحت الوصاية، وبعدها، وربما في ذلك ما يفسر الحرص على احتلاله بخيم 8 آذار لسنة ونيف، منذ عام 2007، لانجاز ما عجزت عنه، والدليل عدد المؤسسات التي أفلست حينها.
اليوم تتجدد محاولة إعطاء المكان انتماء طبقيا غير واقعي، فهو، قبل الحرب لم يكن متاحا لكل التجار وأصحاب الأعمال، وكانت إيجاراته، وأسعار عقاراته، أعلى من مثيلاتها خارجه، وحين دبت الحياة العامة في شارع الحمراء شهد الأخير طفرة مماثلة. وكان الموقعان متاحين لكل الطبقات، ولن يكون قلب العاصمة مختلفا عنهما، وهو لم يكن.
ليس وسط بيروت ما يُحرم منه اللبنانيون، بل الدولة المتبصرة الرؤيوية، واحتكارها السلطة والسلاح، وحيوية مؤسساتها الرقابية، واحترام ساستها القوانين والدستور، وتداول الحكم واحترام إرادة الشعب.
ذلك طريق إنهاء الفساد، وتنشيط الدورة الإقتصادية، وولادة فرص العمل، وإعادة بعث الطبقة الوسطى، ووسط بيروت.
لا يبرئ ذلك “سوليدير” من أخطاء كثيرة أهمها فهم الدور الاجتماعي لقلب العاصمة.