عندما كتب أمين معلوف كتابه النقدي ولكن الشاعري «الهويات القاتلة»، الذي صدرت ترجمته العربية عام ١٩٩٩، لم يكن بإمكانه تخيل مدى القتل الذي ستتسبب به هذه الهويات القاتلة التي عناها في عنوانه وحللها في كتابه بعد اثني عشر عاماً. فهو كان يكتب من وحي حياته هو كلبناني- فرنسي وعلى وقع المقتلة الدموية التي تسببت بها الحرب الأهلية اللبنانية على مدى الخمسة عشر عاماً التي استغرقتها (١٩٧٥-١٩٩١) بين الطوائف والجماعات الوطنية المختلفة. وهو أيضاً كان يستعيد بعضاً من فظائع الحروب التي اندلعت بعد انهيار يوغوسلافيا بين جمهورياتها المختلفة الديانات وبخاصة في البوسنة في بدايات التسعينات.
كان هم الهوية بالنسبة لمعلوف دينياً على الغالب، وكان الانقسام الذي حثّه على الكتابة عن الهوية هو الانقسام المسيحي- المسلم في لبنان وفي البوسنة. وقد لاحظ معلوف بثاقب بصيرته أن الهم الهوياتي تفاقم في العالم العربي وبعض العالم الإسلامي بعد فشل الحداثة المستوردة من الغرب وتحت ضغط العولمة، الآتية أيضاً من الغرب، التي همشت العرب ثانية في نهايات القرن العشرين بعد أن همشتهم الحداثة الناقصة في منتصف القرن. استخدام معلوف لمصطلح الهوية كان استخداماً معمماً، فهو لم يفرق تماماً بين درجات الجدة في تطور مفهوم الهوية قبل صعود الدولة- الأمة وبعدها (وهو ما أتاناً متأخراً بأكثر من قرنين إلى الشواطئ الشرقية والجنوبية للبحر المتوسط). وهو وإن استخدم مصطلح القبلية إلا أن استخدامه كان رمزياً أكثر منه تحليلياً، حيث استنزل المصطلح نفسه على الحاضر الذي كان يرى فيه استعادة لتشكيل هوياتي قديم بحلة معولمة ومتواصلة إعلامياً.
تحليل أمين معلوف واقتراحاته لعلاج ظواهر تعصب الهويات واستقوائها على بعضها البعض كان، كما هو متوقع، ليبرالياً وإنسانياً مع الكثير من الحساسية اليوتوبية. ولا غرو، فهو كان ما زال يصدر في نهايات القرن الماضي عن إيمان بقدرة الفكر المعاصر، بالاتكاء على كل مبادئ الأنوار الإنسانية النبيلة التي كانت ما زالت واقفة، وإن كانت تتطوح، على تجاوز الأزمات الدموية التي كانت تعصف بدولتين محسوبتين على الغرب وإن كانتا في هوامشه. وهو كان ينظر حوله إلى أوروبا تعيد تشكيل نفسها على أساس نبذ الاختلاف والسعي إلى التقارب الهوياتي الذي يجمع الأوروبيين حول فكرة أوروبية مركزية، وإن كان يحتفظ لكل شعب بخصوصيته الثقافية ولغته وكيان دولته.
هذا التفاؤل المبطن، على رغم كل مصائب الهوية، انهار في قرننا الجديد. فلا العولمة حافظت على القدر القليل من الليبرالية التي كانت تغلفها بلمعة براقة إثر اندحار الاتحاد السوفياتي وبلوغ دول حلف وارسو السابق حريتها، ولا أوروبا تمكنت من صيانة هيكلها المتسامح والمنفتح الكلاسيكي مع استيعاب كل الدول الجديدة التي أمت جنتها بعد فقدانها الأب السوفياتي البطاش، وبعد ذلك ذوبان حدودها بسبب قوافل الهجرة الضخمة من الجنوب التي هربت من جحيمها المندلع.
طبعاً لم يقتصر الانهيار على المبادئ والأسس التي قامت عليها أوروبا، والتي ستتمكن على الغالب من تجاوزها على رغم بريكزيت. فبعدم التجاوز تنهار كل أسس الاجتماع المعاصر في عالمنا العربي على الضفة الأخرى من المتوسط بعد فشل ثورات الربيع العربي (اللهم إلا في تونس التي ما زالت تقاوم هذا الانهيار المستشري) وانبثاق الحروب الأهلية المتعددة مكانها. ما حصل في عالمنا العربي من تدهور في مبادئ العيش المشترك التي اكتسبناها حديثاً ولم نهضمها تماماً، يحيلنا إلى زمن غابر وإلى نظرية ظننا أنها أصبحت تاريخاً وإذا بها تعود كأداة تفسير فعال بعد طرحها بأكثر من ستة قرون.
أقصد بذلك نظرية العصبية لابن خلدون (مع الاعتذار لحسن صفدي ومقاله الرائع «ما لنا ولابن خلدون،» الحياة، 9/9/2015).
فالعصبية، وفقاً لابن خلدون الذي عايش دولاً في شمال أفريقيا ذات أساس قبلي تقوم وتسقط على وقع الغزوات البدوية، هي المحرك الأساس لقيام الدول وانهيارها وفق دورة تاريخية واضحة من البداوة إلى الحضارة. طبعاً ما لاحظه ابن خلدون من ضعف الدولة وطغيان السلطة القبلية ينطبق على واقع تاريخي وجغرافي محدد ولا يجوز لنا إسقاطه على الحاضر أو تعميمه، على رغم أن ابن خلدون ربما قصد ذلك. ولكن ما طوره في تعريفه للعصبية يجيئنا اليوم بإلحاح كمفتاح لفهم بعض ما تمر به دول عربية عدة تعصف بها حروب عدمية ومدمرة. فعلى رغم أن ابن خلدون قرر أن العصبية «نزعة طبيعية في البشر»، إلا أنه تتبع نشوءها وتبلورها كأداة ملك وسيادة مما أضفى عليها حراكاً وصبغة سياسية واجتماعية تجاوزت بكثير منابتها الطبيعية.
العصبية نابعة من التعصب. ومنها، وفقاً لابن خلدون، نصرة القريب أو المشارك في النسب أو التحالف أو الولاء أو الانتماء (الضيق تعريفاً) بغض النظر عن أحقية قضيته. وهي أيضاً وسيلة لانتماء الفرد إلى الجماعة انتماءً لا مساءلة فيه. فالفرد هنا يفقد محاكمته الذاتية وينصهر في الاتجاه العام لعصبته (ومحركها من خلفها شيوخها). أي أن العصبية تتجاوز في آن واحد الأخلاق المدنية والحرية الفردية بسبب طبيعتها وكيانها. وهي بذلك مختلفة عن الهوية الوطنية التي جمعت أفراداً وأقواماً ومذاهب مختلفة في كيان وطني واحد يتشاركون في المبادئ والقوانين التي تحكم علاقتهم ببعضهم البعض، أو الهوية القومية التي رامت جمع قوم واحد ذي لغة واحدة في كيان (خيالي) واحد كان سيكون له نفس الأسس الناظمة للدولة-الوطن، أو حتى الهوية الدينية التي جمعت أفراداً يتشاركون في الدين أو المذهب، ولكنهم يبقون في حقوقهم وواجباتهم الدينية أفراداً. كل هذه الهويات متعصبة ضمناً وظاهراً، لكن العصبية القبلية أكثرها تعصباً وأقلها هيكلة اجتماعياً وأبعدها عن الاستقرار.
على ذلك يبدو أننا في عالنا العربي عدنا إلى مرحلة العصبيات، والعصبيات القاتلة تحديداً. فما نشاهده من تفكك في بنى الدول وانهيار لكل الأسس الاجتماعية والسياسية التي قامت عليها يشي بانهيار فكرة الهوية نفسها وصعود مبدأ العصبية القبلية مكانها كمعرف للاجتماع. فلم يعد السوري سورياً أو العراقي عراقياً أو الليبي ليبياً أو اليمني يمنياً فقط وأساساً، بل أصبحوا عصبيات متفرقة تقاتل واحدتها الأخرى ويتحالف أتباعها حول قيادات يدينون لها بولاء أعمى. والأمر نفسه في ما يتعلق بالانتماء الديني أو العرقي الذي تشظى أيضاً لعصبيات أصغر وأكثر انغلاقاً بحيث أصبحنا نرى المسلم يقاتل المسلم، بل السني المسلم يقاتل السني المسلم كما في سورية وليبيا، والكردي يقاتل الكردي في سورية والعراق. أصبحنا على ما يبدو وكأننا حوّرنا الآية الكريمة من «وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا» إلى «وجعلناكم شعوباً وقبائل لتناحروا».
* كاتب سوري وأستاذ الآغا خان للعمارة الإسلامية، معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا