Site icon IMLebanon

عن أي نظام إقليمي نتحدث؟

لمناسبة ما يحدث في المنطقة العربية من تطورات متسارعة، يصبح من المهم التأمل في تاريخ النظام الإقليمي في المنطقة وطبيعته ومدى ما لحق به من تحولات وما مرَّ به من محطات على تعددها وتذبذباتها، إضافة إلى واقع هذا النظام والتحديات التي يواجهها وتلك التي يفرضها وكذلك الآفاق المستقبلية لذلك النظام. ويطرح هذا الوضع تساؤلات حول طبيعة النظام الإقليمي في المنطقة أمس واليوم وغداً؟ وما هي الأطر المرجعية التي حكمت في السابق، وتحكم الآن، ومرشحة أن تحكم في المستقبل، شكلَ هذا النظام ومكوناته؟ ثم ما هي المعايير التي تصلح للرجوع إليها لإصدار أحكام في شأن فعالية مثل هذا النظام؟ وكذلك مدى مشروعية هذا النظام تاريخياً، وأيضاً في الواقع الراهن؟

ومن المقولات الرائجة لدى بعض الدوائر من المثقفين في الوطن العربي، والتي تحتاج إلى عملية مراجعة دقيقة قد تنتج منها تصحيحات مطلوبة، أن النظام الإقليمي في معظم المراحل التاريخية الحديثة والمعاصرة كان نظاماً تغلب عليه سمات النظام القومي العربي. بينما القراءة التاريخية الموضوعية تكشف أنه في غالبية المراحل السابقة إما لم يكن النظام الإقليمي عربياً أصلاً أو أنه كان نظاماً إقليمياً اختلط فيه المكون العروبي بمكونات أخرى، أو حتى في بعض الأحيان لم يكن هناك نظام إقليمي واحد، بل أنظمة إقليمية متداخلة ومتعايشة في ما بينها، بدرجة أو أخرى. بل إننا نذهب هنا إلى حد القول بأنه حتى عندما كان النظام الإقليمي عربياً أو يغلب عليه الطابع العروبي، فإنه كان هناك صراع، أو أكثر، بين البلدان العربية حول توجهات هذا النظام وارتباطاته العالمية. فقد رأينا في السابق أن النظام السائد إقليمياً بدت عليه سمات غالبة تجعله أقرب إلى «نظام إقليمي إسلامي»، وهو ليس فقط كان قائماً في فترات تاريخية ماضية، خصوصاً في القرن التاسع عشر والعقدين الأولين للقرن العشرين في ظل وجود الدولة العثمانية، بل حاولت على مدار العقود الماضية أطراف إقليمية، بعضها عربي وبعضها الآخر غير عربي، إعادة طرحه، بل وأحياناً السعي إلى فرضه، بدرجات متباينة من الحماسة والقوة.

حظي هذا الطرح أحياناً بمباركة، بل وبدعم، من جانب أطراف دولية خارجية رأت فيه في بعض المراحل ما يحقق مصالحها في التنافس الدولي المستمر والجاري، سواء في مراحل ما قبل الحرب الباردة أو خلالها أو بعد انتهائها، على السيطرة والهيمنة على تلك المنطقة ذات الأهمية الاستراتيجية والجيوسياسية المتميزة، والتي تمثل الكتلة العربية مكونها الرئيس. وكان من نتيجة ذلك، في الماضي والحاضر على حد سواء، تنافس محموم بين تلك الأطراف الإقليمية، كل لفرض رؤيته لمثل ذلك «النظام الإقليمي الإسلامي».

كذلك كانت هناك رؤى لنظام إقليمي يتصف بما يمكن أن نطلق عليه الطابع «الشرق أوسطي»، وبخلاف ما يعتقده بعضهم من ارتباط نشأة مثل هذا الطرح بالرغبة لدى أطراف دولية خارجية في تعزيز مكانة دولة إسرائيل على الساحة الإقليمية، فإن المؤكد أن هذا الطرح بدأت جذوره مع بداية التاريخ الحديث للمنطقة، وتحديداً مع الحملة الفرنسية على مصر والشام في نهايات القرن الثامن عشر. ثم أطلَّ بوجهه مجدداً بعد معاهدة لندن بين الدول الأوروبية ووالي مصر محمد علي باشا في العام 1840. ثم تجدد مع موجة الاحتلال الأجنبي، وتحديداً الأوروبي، لغالبية البلدان العربية خلال العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر. إلا أنه لا يوجد خلاف على أن أهم قوة دفع وأكثر الصور وضوحاً لهذا الطرح حدثت خلال وعقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، ممثلة في عدد من الآليات مثل اتفاق سايكس – بيكو البريطاني الفرنسي، ووعد بلفور البريطاني، ومعاهدة «سيفر»، ثم مؤتمر «سان ريمو». وهي تطورات طرحت، أو بمعنى أدق فرضت، واقعاً جديداً على الأرض بدا، على الأقل حتى الآن، من الصعب تغييره أو تجاوزه. ثم جاء هذا الطرح من جديد خلال عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين، وهو ما تبنته إما شخصيات إسرائيلية، بعضها رسمي ورفيع المستوى، أو دوائر غربية، وذلك في أعقاب كل من معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية في العام 1979 ثم بعد اتفاق أوسلو الخاص بإنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية في العام 1993 واتفاق وادي عربة الأردني – الإسرائيلي في العام 1994. وشهدت السنوات القليلة الماضية، خصوصاً منذ انطلاق ما سميَّ بـ «الربيع العربي»، محاولات جديدة للدفع بالطرح الشرق أوسطي من جانب أطراف إقليمية، معظمها غير عربي، وكذلك من جانب أطراف دولية، تبشر جميعاً بهذا الطرح وكأن فيه خلاص العرب من كل ما يعانون منه.

كذلك وجدنا أنه في بعض الفترات تعايشت، أو على الأقل تواجدت زمانياً ومكانياً معاً، رؤى متباينة في منطلقاتها ودوافعها بالنظر إلى ما تصبو إليه في ما يخص الطبيعة الغالبة على النظام الإقليمي في المنطقة، وكان بعضها قومياً عربياً وبعضها وطنياً وبعضها غير ذلك، ما بين شرق أوسطي أو إسلامي أو حتى خاص بقوميات أخرى غير عربية تسعى إلى أن تكون لها اليد الطولى في رسم مستقبل المنطقة وصياغة ترتيباتها النهائية. أو، على أقل تقدير، كي تتحصل على الفرصة لممارسة ما ترى أنها حقوق قومية مستحقة، بل وربما متأخرة، مثل الحق في تقرير المصير. ومن الأمثلة على تلك الحالات الفترة التالية مباشرة على تحرير الكويت في العام 1991، ومنها أيضاً الفترة الراهنة التي تتسم بدرجة متقدمة من السيولة وغياب وضوح الرؤية في ما يتعلق بالنظام الإقليمي ومعالمه وترتيباته. وفي هذه الحالات يتعامل كل طرف مع النظام الإقليمي على النحو الذي يتمنى أن يراه، وليس بالضرورة كما هو فعلياً.

أما إذا وصلنا إلى الطرح الخاص بنظام إقليمي عربي سائد في المنطقة، فنجد أنه رغم وجوده على الصعيدين الفكري والنظري منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر ممثلاً في كتابات مثقفين وناشطين سياسيين واجتماعيين عرب، فإن تجسيده الأول لم يأتِ سوى من خلال إنشاء جامعة الدول العربية مع نهايات الحرب العالمية الثانية. كما أن فشل هذا النظام في مواجهة اختبار حرب فلسطين في العام 1948 شكَّل هزةً كبرى في صدقيته، إلا أنه سرعان ما استعاد بريقه، على الأقل لبعض الوقت، في ضوء بزوغ نجم حزب «البعث» من جهة والتوجه القومي العربي المتصاعد للقيادة الناصرية في مصر من جهة أخرى. وتوج ذلك بالموقف العربي بعد تأميم قناة السويس واندحار العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956 وانتهاءً بالوحدة المصرية السورية في العام 1958، إلا أنه حتى خلال تلك الفترة الممتدة ما بين العامين 1956 و1967، والتي يشار إليها باعتبارها الفترة الذهبية للنظام الإقليمي العربي، فإن الانقسامات والتنافسات داخل هذا النظام وأطرافه العربية كانت حادة، وبلغت حد القتال، سواء مباشرة أو بالوكالة، بما في ذلك انقسامات داخل المعسكر العربي الملقب بـ «التقدمي» وداخل المعسكر العربي الملقب بـ «المحافظ» آنذاك.

إلا أن هذا النظام أيضاً تعرَّض لتحديات، بعضها نجح في تجاوزه مثل حرب اليمن في ستينات القرن العشرين، وبعضها لم يتجاوزه بعدُ مثل الهزيمة العربية في العام 1967، وبعضها أنهكه واستنزفه حتى نجح في شكل جزئي أو كلي في تجاوزه من جهة، كما أنه نال من صدقيته من جهة ومن مشروعيته من جهة أخرى، مثل حالات الحرب الأهلية اللبنانية في سبعينات القرن المنصرم والغزو العراقي للكويت في تسعينات القرن نفسه، والحرب العراقية – الإيرانية في ما بين هذين التاريخين. إضافة إلى حصار بيروت من قبل القوات الإسرائيلية في العام 1982، والغزو الأميركي للعراق في العام 2003، وأخيراً وليس آخراً تداعيات «الربيع العربي»، خصوصاً في ما يخص التطورات التي جرت ولا تزال في ليبيا وسورية واليمن بالدرجة الأولى، وعدم استقرار الأوضاع بعد في العراق ولبنان، وأخيراً وليس آخراً استمرار القضية المركزية للعرب بلا تسوية، ألا وهي القضية الفلسطينية.

وبينما تصوغ الأطراف المختلفة اليوم رؤاها لمستقبل النظام الإقليمي بما يحقق مصالحها، يبقى السؤال: هل ينجح العرب في صياغة رؤية متجانسة، أو حتى توافقية، لمستقبل النظام الإقليمي بما يحقق الحد الأدنى المشترك من مصالحهم؟ أم يتركون الساحة للأطراف الإقليمية الأخرى والأطراف الخارجية لتملي ما يلبي مطامحها وتتوصل إلى تفاهمات في ما بينها، قد تكون على حساب المصالح العربية، أو على الأقل ليست في مصلحة تلك المصالح؟