IMLebanon

عن الدم النازف من تركيا…

نبيل هيثم

مرة جديدة ينزف لبنان دماً، ينزف الشهيد تلو الشهيد، الجريح تلو الجريح، ينزف أباً مفجوعاً، وأماً ثكلى، أخاً، أختاً، وعائلات مهدّمة، محطّمة، ومكسورة في أعزّ ما تملك.

مرة جديدة يدفع لبنان الثمن الغالي على مذبح الارهاب. شبّان وشابّات من عمر الورود، ذنبهم الوحيد أنهم اختاروا أن يفرحوا ويعيشوا الشباب والصِبى، ويحتفلوا في المكان الذي افترضوا أنّه آمن، ولم يكونوا يعلمون انّ ذئاب الارهاب وأشباح الظلام كامنة لهم لتغتالهم وتنهش أجسادهم.

المشهد مُبك، ولا حدود للحزن فيه، ولا حدود للألم.

والكلام يقف عاجزاً مُنعدم القدرة على مواساة ذويهم بهذا المصاب الكبير. وحسناً فعلت الدولة اللبنانية بحضورها في هذه المأساة وقيامها بما هو واجب عليها تجاه الشهداء والجرحى وذويهم.

وتَبدّت مشاعر اللبنانيين من أدنى لبنان الى أقصاه، تعاطفاً مع الضحايا الشهداء الاموات والاحياء، جَمعتهم الدمعة والخسارة لهذه الكوكبة من الابناء، لكن ما هو مؤلم أكثر من الجريمة نفسها، هو تلك الاصوات الكريهة التي نَعقت بما هو أكثر من تَشفٍ بالضحايا، لا لسبب إلّا لأنّ هذه الاصوات نابعة من جاهلية كريهة عمياء وظلام دامس لا يعرف معنى النور ولا يمتّ الى الانسانية بصِلة.

وما هو مؤلم ايضاً تلك النقاشات الخطيرة والبغيضة التي أثيرت على مواقع التواصل الاجتماعي وأثارت الغضب من المحتوى الجاهلي الذي احتوته، بما يدفع الى رسم علامة استفهام كبيرة حول هذه الجرأة الوقحة بتناول الشهداء وإسقاط أوصاف عليهم لمجرد أنهم أرادوا أن يفرحوا!!

فأين نحن؟ والى أين نحن ذاهبون؟ وكيف يمكن التعايُش في بلد كلبنان مع هذه الاصوات التي تشكّل عبوات ناسفة لكل المجتمع اللبناني، ومع البيئة الحاضنة لها التي ترفض الفرح، لا بل ترفض حتى مجرد الابتسام؟!!

هنا يَتبدّى الخطر الكبير، وهنا تُلقى على الدولة، كل الدولة، وكل المكونات والمرجعيات والقيادات مسؤوليّة تفكيك هذه العبوات، لا بل اجتِثاثها. ممّا حصل في الاعتداء على الملهى في اسطنبول والغدر بروّاده اللبنانيين وغير اللبنانيين، تتبدّى عِبرتان:

– الاولى، انّ الارهاب لا يفرّق بين دين او عرق او جنسية، وبين طفل وشاب وصبية وكهل، هو خطر عابر للدول وللقارات، ولا فرق بين إرهاب بـ«بدلة» وإرهاب بـ«كرافات»، وارهاب بلحى و«دَشاديش» و«تَنانير». ولمَن يتبرعون دائماً بأسباب تخفيفية او اوصاف تبريرية، صار عليهم ان يقتنعوا ولَو لمرة واحدة، ان لا وجود لإرهاب معتدل او ارهاب متشدد، بل هناك ارهاب واحد قاتل، بَصَماته على أجساد كل الشهداء والضحايا في كل بقاع الارض.

– الثانية، تبرز فيها حقيقة ساطعة ورسالة الى كل اللبنانيين وهي انّ لبنان، هذه الدولة الصغيرة الواقعة ضمن محيط متفجّر، يعيش في نعمة استثنائية جعلته الدولة الأكثر أمناً وأماناً في المنطقة، لا بل أكثر من دول أوروبا.

لبنان آمن، إنما بحذر دائم، واوروبا مهجوسة وتركيا التي تصنّف نفسها أنها «الدولة العظيمة» فهي بعاصمتها السياحيّة والاقتصادية اسطنبول مسرح ومَرتع للارهاب المتعدد الالوان والاشكال، يرتدي فيها ثياب «بابانويل» ويفرغ عشرين ممشط وأكثر من الرصاص.

وقبله قتل السفير الروسي، وقبله انفجار «تقسيم» وقبله وقبله… وأمّا القاتل فهو محصّن ببيئة حاضنة له ويفرّ آمناً مطمئناً! فألا ينبغي أن يدفع هذا المشهد الارهابي، المُتفشّي من اوروبا الى تركيا الى كل الدول المحيطة بلبنان، اللبنانيين الى إلقاء نظرة تأمّل ولَو قصيرة على هذه النعمة أو على هذه «المعجزة الأمنية التي نعيش بها»، على حدّ توصيف الرئيس نبيه بري؟

ألا ينبغي أن يدفعهم الى السؤال عن سرّ نعمة الأمان المُظللة للبنانيين، والتي تجعلهم مطمئنين الى ليلهم ونهارهم والى أنّ الصباح سينبلج مجدداً على غير ما هو سائد في المحيط؟

ألا ينبغي أن يشعر اللبنانيون، من دون استثناء، بأنهم محكومون بالحفاظ على هذه النعمة؟

ليس سراً أنّ مجموعة عوامل ساهمت في توليد هذه النعمة:

– الأولى، إرادة الدول الخارجية الكبرى والاقليمية في إبقاء ساحة لبنان باردة، وفي إحباط كل محاولات تفجيرها عبر محاولة تفكيك الشبكات الكامنة ونزع فتائل الارهاب.

وليس سراً دور بعض الدول الكبرى، كالولايات المتحدة الاميركية، في فتح مخازن السلاح للجيش، وكذلك في المعلومات الاستخباراتية التي ساهمت في إحباط العديد من العمليات الارهابية.

– الثانية، التضحية الحقيقية اليومية للجيش والأمن العام وسائر الاجهزة الامنية، ومراكمة الخبرة والاحترافية في مواجهة الارهاب وضرب شبكاته وخلاياه النائمة.

هنا تُسجّل للجيش ولقائده العماد جان قهوجي ولأفراده ولمديرية المخابرات، إنجازات كبرى على هذا الصعيد، من مخيم عين الحلوة، الى عرسال والشمال والحدود وسائر المناطق اللبنانية. وآخرها بالأمس القريب في طرابلس، بعمليات استباقية تمكّن عبرها من إلقاء القبض على أكبر رؤوس الارهاب وأخطرها.

وهنا يسجّل للأمن العام أيضاً، إنجازات متتالية وبقيادة مديره العام اللواء عباس ابراهيم، مَكّنَته خلال سنوات من الحضور الحثيث والمباشر على مسرح مواجهة الارهاب من تحقيق نقلة نوعية كبيرة راكَمَ خلالها كَمّاً من الانجازات ذات الطابع النوعي، والتي أكثرها صامت وأقلّها مُعلن، ولعلّ أهمها بالأمس القريب حينما تمكّن الامن العام من إلقاء القبض على إرهابي خطير في لبنان خلال الساعات الماضية.

والأكثر دلالة في هذا السياق تأكيد اللواء ابراهيم على تعاون الأجهزة اللبنانية مع أجهزة أمنية عربية وغربية، وإشارته الى حرفية الاجهزة اللبنانية التي زوّدت بعض الدول الغربية بمعلومات حصلت عليها من اعترافات الموقوفين المنتمين الى جماعات إرهابية،

ويسجّل لفرع المعلومات في قوى الامن الداخلي تحقيق إنجازات، أبرزها تفكيك خلية برج البراجنة الشهيرة بالاضافة الى إنجازات متفرقة في أكثر من مكان.

– الثالثة، «وَعي» الشريحة الكبرى من اللبنانيين بعدم الانجرار والانجراف مع الافكار المميتة والقاتلة للمجتمع.

– الرابعة، «وَعي» الشريحة الكبرى من السياسيين، ولَو متأخرين، لمعنى خطر الارهاب وحجم الثمن الذي يمكن ان يدفعه لبنان على هذا الطريق.

تِبعاً لذلك، الحق يقال انّ انتقال البلد من حال الفراغ الى حال اللافراغ هو أمر يعزّز منحى الامان.

والحق يقال انّ استمرار سهر الجيش والاجهزة الامنية وتحقيق الانجازات النوعية أمران يعزّزان هذا المنحى.

والحق يقال انّ وجود حكومة جديدة متفاهمة ومتآلفة لا متناكفة، وقادرة على الفعل ولَو بالحد الأدنى، أمر يشكّل الظهر الخلفي والسند للفعل الامني، وبالتالي الاستقرار.

والحق يقال انّ وجود بيئة سياسية هادئة يشكّل مضخّة الأمان الحقيقية لكل الكيان اللبناني.

الأمر المُبشّر حالياً هو انّ السياسيين خرجوا في الوقت الحالي من خلف متاريس التّقاصف السياسي والطائفي والمذهبي.

والأمر المُبشّر ايضاً هو الارادة الظاهرة لدى كل المكوّنات في تغليب لغة التلاقي على الطلاق السياسي. وثمّة حديث جدي عن بدء ورشة لبناء جسور بين القوى السياسية المختلفة، وخصوصاً بين تيار المستقبل و«حزب الله» وبين الحزب و«القوات اللبنانية» إضافة الى إعادة ترميم العلاقات في ما بين قوى أخرى وبين من كانوا يوماً في صف الحلفاء.

بالتأكيد انّ الخروج من خلف المتاريس هو أمر مبهج جداً، لكنّ الأهم هو ألّا يكون خروجهم موقتاً، فيعودون بعد فترة وعند ايّ محطة خلافية عاديّة وتَبايُن في وجهات النظر السياسية او الانتخابية، الى التمترس خلف متاريسهم، والغرق مجدداً في بحر الخلافات والمياه السياسية والطائفية والمذهبية الآسنة التي تنتج عنها.

والجميع يذكرون كيف انه في زمن الخلافات والاشتباك والتصعيد السياسي والشحن المذهبي،كانت الابواب تَتشرّع أمام الارهاب لينفذ من باب الخلافات ويجد بيئة جاهزة لاستقباله واحتضانه.

يبقى انّ العبرة الأساس والواجب الأساس يكمنان في الاستفادة من التجارب وأخذ العبر منها، وبالتالي توجيه الانظار الى منطقة عرسال والجرود على امتداد الحدود مع سوريا، وما بينها أو ما يحاذيها من مخيمات، فهناك يكمن الوَضع المِسخ والحزام الناسف الذي يهدّد الجميع من دون استثناء.