لا تعكس مشاهد النعوش التي تصل على مدار الأيام إلى الضاحية الجنوبية وما يستتبعها من ألم ولوعة في نفوس الأهالي، تلك الوعود بالنصر التي يُطلقها الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله خلال إطلالاته المُتلفزة ولا حتّى مقتطفات وصور «الانتصارات» المُفبركة والواهية التي تبثّها وسائل إعلام الحزب وكأنّها محاولة للتغطيّة أو التعمية عن الصورة الحقيقيّة للواقع المرير الذي تعيشه هذه المنطقة والتّي تختزل في مُعاناتها المأساة داخل بيئة الحزب عموماً في لبنان.
قدر الضاحية الجنوبية التي لم تخرج منذ أكثر من ثلاثين عاماً من رحم الأحزان، أن تبقى على موعد دائم مع الموت. وجوه تتبدّل ولكنات تمتزج بين «جنوبي» و»بقاعي» و»بيروتي» تختلط بين منطقة وأخرى، والشيء الثابت والوحيد الوجع والخوف الذي يسكن في عيون الجميع وتحديداً لدى سماع الأهالي عن وصول نعوش من سوريا بعدما تحوّل كل شاب إلى مشروع داخل نعش سواء كان الذهاب إلى الموت بإرادته أو من دونها، ومن أخبر بحالات القلق أكثر من والدة تسأل عن مصير ابنها بعد فترة غياب عن المنزل طالت لأكثر من شهرين أو ثلاثة.
مشاهد الألم في الضاحية تتفاوت بين بيت وآخر، فالبيت الذي خسر أحد أبنائه لا يُشبه حاله حال منزل فقد الأب والإبن خلال فترة قصيرة ولا داخل عشيرة فقدت حتّى الآن أكثر من عشرة من أبنائها وما زال الحبل على «الجرّار» خصوصاً وأنّها ما زالت تنتظر عودة البقيّة منهم إمّا أحياء وإمّا داخل النعوش، في الوقت الذي يتهرّب فيه أبناء مسؤولين في «حزب الله» من أداء واجبهم «الجهادي» في سوريا، إمّا بنقلهم إلى مناطق آمنة، وإمّا من خلال حصولهم على تقارير طُبيّة مُفبركة تُجيز لهم ملازمة منازلهم وذلك على يد أطبّاء مُتعاقدين مع الحزب بالتنسيق والترتيب مع أولياء أمورهم في ما يُشبه الى حد بعيد، حالات الفرار التي تحصل اليوم داخل جيش النظام السوري.
لا معلومات عن مصير أبناء يُقاتلون في سوريا منذ أشهر ولا حتّى خبر يُثلج قلب أم لشابين أحدهما مجهول المصير منذ أكثر من شهر، وعوض أن يأتيها الخبر اليقين عنه من القيادة العسكريّة المعنيّة بإرساله إلى الحرب رغم فشل محاولاتها المُتكرّرة، تذهب للبحث عنه عبر مواقع الأخبار الإلكترونيّة وبين مشاهد الأحياء والأسرى التي تبثّها شاشات التلفزة. وهنا يُلاحظ بأن الازدواجيّة في تعاطي عدد كبير من الأهالي مع هذه الحرب باتت تتحكّم بحياتهم وعقولهم، فعودة الأبناء سالمين تُنسي الأهالي صعوبة اللحظات التي مرّت عليهم أثناء الغياب وتجعلهم يتقبلّون فكرة عودتهم للقتال، لكن سرعان ما تعود وتتغلّب العاطفة على الواقع ولتبدأ مُجدّداً رحلة العذاب والقلق وتعقّب مصير الأبناء.
هي إذاً انتصارات مزعومة تُكذّبها الوقائع الميدانية، تُقابلها أسئلة لأهالي عن موعد للخلاص من كابوس يُلاحقهم ويسلبهم في غفلة من الزمن أعزّ ما لديهم تُرافقها أصوات قذائف صاروخية تُطلق في سماء الضاحية في لحظات التشييع كتعبير وحيد عن حالات الألم. مقاتلون لم تعد أمهاتهم وزوجاتهم توصلهم إلى عتبة المنزل لحظة مُغادرتهم وتوجّههم إلى الجبهات كما كنّ يفعلن في زمن المقاومة ضد إسرائيل كتعبير منهن عن حالات الرضى، فالأمر تحوّل إلى ما يُشبه حالات الوداع الأخيرة وسؤال وحيد يجول في الفكر ويسرح بنوعيّة اللقاء في المرّة المُقبلة.
كل الأوجاع المُتشابهة على هذه البقعة التي يلفّها السواد منذ أن تطأها قدما الزائر إلى أن يُدير لها ظهره ويُغادرها، تدل على مشهديّة الموت التي يعيشها أهل الضاحية في يوميّاتهم والتي تحوّلت جزءاً أساسيّاً من سنين تُلاحق خطواتهم لتخطف منهم أعز ما يملكونه، فالنعوش أصبحت علامة فارقة في حياتهم، أمّا من هم في داخلها فتحوّلوا بدورهم إلى رزنامة تتشابه في حكايا أوراقها لكنّها تختلف في الأرقام. وعلى وقع الأناشيد الحماسيّة وخطابات النصر الموعود يُدفن شباب «المقاومة» ويُسمع صوت والدة تقول «يا ماما هيدي الحفرة مش الك يا تقبرني، هيدي كنت تستعملها لتكمن للإسرائيلي«.