ليست اللامركزية، أو الفيديرالية، أو الكونفيديرالية، أو حتى الحكم الذاتي شراً يقتضي إبعاده والابتعاد عنه في كل حال. الشيطان هنا يكمن فقط في العصبوية الأحادية الانعزالية، عرقية كانت أو دينية أو طائفية، التي تدفع في هذا الاتجاه، كما في الظروف السياسية والأمنية (فضلاً عن الإقليمية والدولية) التي تتم فيها أو تجري الدعوة لها. فأنجح الأنظمة في العالم، أو أقلها سوءاً على الأقل، هي التي تقوم على حد ما من اللامركزية أو حتى الفيديرالية، بغض النظر عن تجانس المجتمعات أو تنوعها عرقياً ودينياً ولون بشرة. كما ليس جديداً القول، في ما يعنينا تحديداً، أن فشل الأنظمة هو المسؤول أكثر من أي شيء آخر عما تعاني منه المنطقة العربية من انقسام إثني وطائفي ومذهبي في المرحلة الحالية.
مناسبة الكلام ما رددته الولايات المتحدة وروسيا في المدة الأخيرة، تارة تحت عنوان التقسيم باعتباره «الحل الوحيد الممكن» للحرب في سورية بعد أن بلغ تقاسم الأرض فيها ما بلغه من كانتونات صافية إثنياً وطائفياً ومذهبياً، وتارة أخرى باسم التباعد السائد بين مكونات الشعب ودخولها (اختياراً أو قسراً) حروباً أهلية ذهب ضحيتها مئات الآلاف من ناحية، وأنتجت فرزاً سكانياً في الداخل وإلى بلدان العالم في الخارج على حد سواء من ناحية ثانية.
ليس ذلك فقط، بل إن إحدى شرائح هذا الشعب (الأكراد، أو بعض أحزابهم) ذهبت، ومن جانب واحد، إلى إعلان ما وصفته بـ»حكم ذاتي» فيديرالي في المناطق التي أمكن للحزب الأقوى تسليحاً بين أحزابها (حزب الاتحاد الديموقراطي) أن يسيطر عليها في خلال الأعوام الـ5 الماضية. ومع أن أحداً في سورية، أو في الخارج، لم يؤيد الخطوة الكردية هذه لا علناً ولا حتى سراً، فإن أحداً في الآن ذاته لم يعتبرها انفصالاً عن الوطن الأم، وبالتالي تقسيماً له، لا سيما أنها تفترض للشريحة الكردية هذه ثلاثة أجزاء من الأرض متباعدة عن بعضها بحيث لا يربط أحدها بالآخر رابط جغرافي، فضلاً عن أنها ليست صافية إثنياً ولا دينياً بل تحتوي على أقليات عرقية وطائفية ومذهبية مختلفة. في أي حال، لا بد من القول إن ما تشهده شعوب المنطقة حالياً، من انقسام عمودي وأفقي، لم تشهد مثله في أية مرحلة من تاريخها. وعودة بالذاكرة إلى ما كانت عليه الشعوب هذه من وحدة موقف، أو حتى تمازج واندماج اجتماعيين، في ماض لم يمر عليه الزمن، ينبغي الاعتراف بالحقائق التالية:
أولاً، وقوف المسلمين، وإن مع بعض الاستثناءات، جنباً إلى جنب مع المسيحيين في وجه الحكم العثماني «المسلم» شكلاً وشعاراً، وما عرف في حينه بمحاولة تتريك المنطقة وشعوبها.
ثانياً، وقوف المسيحيين كذلك إلى جانب المسلمين ضد الانتدابين الفرنسي والإنكليزي «المسيحيين» وصولاً إلى استقلال بلدان المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية.
ثالثاً، تعايش المسلمين والمسيحيين واليهود (قبل قيام إسرائيل) في هذه البلدان، وإن مع بعض الشكوى التي كانت في أسبابها قبلية وعشائرية أكثر من أي شيء آخر.
لم يكن الاندماج الاجتماعي بين الطوائف والمذاهب والأعراق والقبائل في أحسن حال، إلا أنه لم يكن في المقابل ولا في أي يوم بالسوء الذي يبدو عليه الآن. وفي بلدان محددة، كلبنان، لم يكن ممكناً إنشاء دولة المواطنة على حساب المحاصّة الطائفية، أو حتى الديموقراطية التوافقية، التي شكلت تعويضاً عن المخاوف المتبادلة من تراجع «الاستثناءات» في الحالتين العثمانية والفرنسية، لكن ما سبق قيام إسرائيل على حدوده، وبالتالي بدء المقاومة الفلسطينية، كان بالنسبة له عصراً يمكن أن يوصف بأنه ذهبي إلى حد كبير. لم يكن لبنان يومها نموذجاً للعيش الواحد، ولا للحداثة بمعانيها آنذاك، إلا أنه كان على طريقهما من دون شك… لا سيما في ما يتعلق بالحريات الفردية والعمل الحزبي والنهضة التعليمية والإبداع الفكري، فضلاً عن المبادرات الاقتصادية والاجتماعية.
وفي البلدان العربية الأخرى، على تفاوت تعليم أبنائها وتقدم أو تخلف أنظمتها، لم تكن الحال مختلفة كثيراً على مستوى العيش بين مكوناتها، على رغم تمسكها التقليدي بالدين وكون معظمها ينتمي إلى الدين الإسلامي. ما الذي حدث منذ النصف الثاني من القرن العشرين وأدى، في ما أدى، إلى ما نحن عليه الآن؟.
ليس من المبالغة اعتبار أن أنظمة الحكم التي استولت على بلدان المنطقة، بالقوة المسلحة والبلاغ الرقم 1 وباسم التقدم ومحاربة الرجعية من جهة، وبادعاء السعي لتحرير فلسطين وأنه «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» من جهة ثانية، وتحت شعارات الحرية والوحدة والاشتراكية من جهة ثالثة، هي التي تتحمل المسؤولية الكبرى عما آلت إليه الأمور… من المظلومية لدى البعض، إلى الشعور بالتهميش لدى البعض الآخر، إلى بدء الكلام على الأقليات والأكثرية، إلى عودة الجميع تقريباً عملياً إلى مرتكزاته العرقية والدينية، وحتى المذهبية بعد الثورة الشيعية في إيران.
وغني عن القول إن هذه الحال هي التي تجعل نظريات مثل اللامركزية الإدارية أو الفيديرالية أو حتى الحكم الذاتي، وصولاً في بعض الحالات إلى التقسيم الكامل والنهائي، تجد قبولاً لدى أعراق أو أديان أو طوائف معينة.
لكن مهلاً مع ذلك كله!. هل جاءكم خبر الحكم الذاتي في كردستان العراق، وما يشهده منذ آب (أغسطس) 2015 حتى الآن، حيث يتمسك رئيسه مسعود بارزاني بمنصبه رافضاً إجراء انتخابات رئاسية كما ينص الدستور، ومعطلاً بالتالي أحد أسس الإقليم الكردي وما يسمى النظام الفيديرالي في العراق بعد إسقاط نظام صدام حسين الديكتاتوري؟.
وهل هي الفيديرالية والحكم الذاتي، أو حتى حقوق الإثنيات والطوائف والمذاهب، أم أنها الديكتاتورية مجدداً تحت مثل هذه الشعارات؟.
الحال، أن أنظمة الحكم هي الشيطان الأكبر في المنطقة. كانت كذلك، وتبقى كما تدل تجربة إقليم كردستان، سواء كان اسمها أنظمة وحدوية عابرة للحدود أو فيديرالية أو ما شابه. والقضية تبدأ عملياً من العصبوية الإثنية أو الدينية أو المذهبية التي تثيرها القوى الحاكمة ويتلاعب بها خصومها أكثر من أي شيء آخر.