العمر الطبيعي لحكومة سعد الحريري 180 يوماً بالتمام والكمال، ينتهي في 20 حزيران 2017، وبعد هذا التاريخ تدخل في مرحلة تصريف أعمال الى حين تشكيل حكومة جديدة تُفرزها الانتخابات النيابية التي يفترض أن تجري خلال الستين يوماً السابقة لانتهاء ولاية المجلس النيابي في عشرين حزيران، أي ما بين 20 نيسان و20 حزيران.
معنى ذلك أنّ السقف الزمني ليس مفتوحاً أمام الحكومة، بل هو محدَّد بستة أشهر وكَم يوم. وكل يوم محسوب عليها ولا عذر لها في تضييع ولو يوم واحد، لذلك هي محكومة بأن تتحوّل إلى حكومة استثنائية تعمل وتُنجز، خصوصاً أنّ جدول مهمّاتها أريدَ له أن يكون متواضعاً ويتمحور حول بندَين أساسيَّين هما الموازنة العامة والقانون الانتخابي، من دون مقاربة أيّ من الملفات الخلافية التي قد تحرف مسارها في الاتجاه الذي يجعلها عالقة فيه، من دون إمكانية الخروج من حقل تعقيداتها الواسعة.
ولأنّ الوقت محسوب عليها ليس بالأيام بل بالدقائق، فأمامها أيام قليلة للانتهاء من البند الأول وإعداد موازنة عامة تُعيد الانتظام الى الوضع المالي بدلاً من الواقع المشوّه بلا موازنة منذ العام 2005، وما يحمل على التفاؤل هنا أنّ وزير المال علي حسن خليل على أهبّة تقديم مشروع الموازنة في وقت قياسي على غرار ما كان يفعل في أيام حكومة تمام سلام، حيث أعدَّ الموازنة مرّتين في موعدها الطبيعي لكنّ مجلس الوزراء تلكّأ عن إقرارها في ذلك الحين لأسباب غير مقنعة.
وجهوزية وزير المال حيال إعداد الموازنة تقابلها جهوزية لدى رئيس المجلس النيابي نبيه برّي لعقد جلسة إقرارها في وقت قياسي أيضاً.
ولأنّ الوقت محسوب على الحكومة ويضغط عليها ولا تستطيع أن تُهمله أو تضيعه، فإنّ أمامها أياماً أيضاً لإعداد قانون انتخابي جديد على أنقاض قانون الستين، ولكن هل هناك جهوزية حكومية لتحقيق هذا الإنجاز؟
الأكيد أنّ المهمة الانتخابية للحكومة ليست سهلة في ظلّ الانقسام الحاد حول شكل القانون، وتجاوز هذا الانقسام يتطلب جهوداً خارقة للوصول الى قانون انتخابي يُراعي هواجس كل الأطراف ومصالحها، ويُترجم شعار العدالة وسلامة التمثيل.
لكن ما يمكن أن يُخفّف من صعوبة المهمة يَتبدَّى في ما يلي:
أولاً، المزاج السياسي العام صار رافضاً بأكثريّته الساحقة لقانون الستين وإبقاء هذا القانون على قيد الحياة صار اكثر صعوبة وتعقيداً، خصوصاً بعدما نجحت عملية صناعة الرأي العام ضده في دَغدغة كثيرين من خارج البيئة السياسية والحكومية سواء في المجتمع المدني أو المنظّمات الاهلية والجمعيات، وكذلك في الشريحة الواسعة من اللبنانيين التي ترغب في إحداث صدمة حقيقية في الحياة السياسية عبر قانون انتخابي عصريّ.
ثانياً، الترويج للستين صار أكثر صعوبة وتعقيداً في ظلّ:
1- ضيق مساحة البيئة الحاضنة له. وتوجّهات المستويات السياسية والروحية التي عبَّرت كلها عن الاستعداد للمشاركة في مراسم دفنه الى غير رجعة.
2- موقف بكركي واعتراضها عليه وحضّها على قانون عصري يؤمّن صحّة التمثيل وعدالته لكلّ المكونات من دون انتقاص، وهذا لا يؤمّنه قانون الستين.
3- بعض القوى الكبرى صارت مقتنعة بأنّها لم تعد قادرة على معاكسة الرياح التي تهبّ اعتراضاً على الستين، ولا على اتّباع سياسة المراوغة والالتفاف على الوقائع والظهور بمظهر من يريد أمراً ويُخفي في المقابل الأمر الحقيقي الذي يريده. وبالتالي، صارت مضطرّة لأن تسير مع التيار وقد ينطبق ذلك على تيار «المستقبل».
4- موقف رئيس الجمهورية ومن خلاله موقف «التيار الوطني الحر» الذي يُجاهر علناً بفقدان الستين لصلاحية استمراره وبضرورة الوصول الى قانون انتخابي على أساس النسبية، مُلتقياً بذلك مع ما ينادي به الرئيس نبيه برّي و«حزب الله».
والرئيس ميشال عون بما يُمثّل من ثقل رئاسي ونيابي وحكومي صار أمام تحدّي إثبات أنه يسعى الى قانون على أساس النسبية، علماً أنه أكّد مجدّداً أنه سيسير حتى في هذا الاتجاه.
يقود ذلك الى افتراض أنّ الحكومة ومعها المجلس النيابي وكل الطاقم السياسي صار ممنوعاً عليها العودة الى الوراء، بل صار الجميع محكومين بصياغة قانون جديد يشكّل مساحة مشتركة تأخذ مصالح الجميع وأرباحهم في الاعتبار وتأخذ خسائرهم أيضاً في الاعتبار.
هنا لا بد من الاستفادة من عامل الوقت، لكن شرط عدم التذرّع أو الاتّكاء على نقاشات اللجنة النيابية التي دارت في حلقة مفرغة على مدى أكثر من سنة ونصف السنة.
الملاحظ أنّ علامة مبشّرة ظهرت على الخط الانتخابي، وتَبدَّت في ما يشبه التعديل في مقاربة تيار «المستقبل» للملف الانتخابي. الحريري تحدَّث عن النسبية غير مرة في بيانه بعد تشكيل حكومته، وكذلك في الحوار الانتخابي الذي بدا بين حركة «أمل» و«حزب الله» وتيار «المستقبل»، والذي تمّ على جولتين حتى الآن في أجواء وصَفها برّي بالجيّدة، «هناك حراك إنتخابي جدّي، وهناك حوار إنتخابي بيننا وبين «المستقبل» و«حزب الله»، وجو النقاش جدّي ومنفتح، وفي النهاية تبقى الأمور في خواتيمها».
إلّا أنّ برّي لا يعكس اطمئناناً كاملاً لإمكان الوصول الى قانون جديد، «لأنّ المواقف التي تُعلن من هنا وهناك، ما زالت تؤكّد ما سبق وقلته إنّ قلوبهم مع الستين، وهذا ما يدفعني لأكرّر أنه لا خلاص لنا إلّا بقانون جديد».
الأهمّ في رأي برّي هو عدم الغرق في الافكار المتصادمة، مع الاشارة الى أنّ موقف «حزب الله» و«أمل» واحد في النظرة الى القانون النسبي. وحالياً، المسار الذي نسلكه يتركّز حول القانون المختلط (64 – 64) وكذلك حول الصيغة التأهيلية على مرحلتين (من القضاء على أساس النظام الأكثري والانتخاب في المحافظة على أساس النظام النسبي).
ويقول برّي: «لا أستطيع من الآن استباق الامور، وربما يكون هذا الامر هو الأكثر ترجيحاً، لكن يجب انتظار ما ستؤول إليه المشاورات حوله لكي يُبنى على الشيء مقتضاه. المهم أن يحظى هذا الأمر بالتوافق حوله. موافقة «التيار الوطني الحر» على هذا القانون مهمّة، لكنّ الأهم هو موافقة الآخرين سواء «القوات اللبنانية» وغيرها».
قد يكون هذا الحوار الثلاثي قد أثار حفيظة القلقين من النسبية، وهناك توجّس حقيقي لدى هؤلاء من اجتماع القوى السياسية الكبرى: «المستقبل»، «التيار الوطني الحر»، حركة «أمل» و»حزب الله»، على قانون انتخابي نسبي وفَرضِه على الواقع اللبناني.
يُقابل هذا القلق منطق آخر يقول إنّ الوصول الى مثل هذا التفاهم الرباعي ممكن، إلّا أنّ ذلك لا يعني فَرض القانون النسبي على المكوّنات الصغيرة لتحجيمها او إلغائها، بل يمكن أن يشكّل الرافعة الحقيقية لأيّ قانون يفترض أن يحظى بتوافق حوله.
ليس خافياً هنا التوجّس الجنبلاطي من محاولة محاصرته إنتخابياً، ويظهر هذا القلق والتململ عبر سلسلة التغريدات لرئيس الحزب التقدمي الإشتراكي الذي يرى في النسبية كما يطرحها خطراً وجودياً.
هناك من قرأ في ارتفاع النبرة الجنبلاطية المباشرة ضد النسبية، وغير المباشرة ضد «تفاهم الكبار على حساب الصغار» رسائل نارية في كل الاتجاهات، وعين التينة ضمنها، لكنّ الرئيس برّي لا يعتبر نفسه هدفاً للتصويب عليه من جنبلاط «أنا أفهمه وأتفهّمه، هو لا يُصوّب علينا، ولا يقصدني، بل يقصد المبدأ، أي قانون النسبية».
وبالتوازي مع كلام برّي، هناك من يؤكد أنّ جنبلاط وهواجسه موضوعة دائماً تحت مجهر عين التينة، ورئيس المجلس يحاول بذكاء أن يَصل الى قانون يراعي مصالح الجميع، بما فيها مصالح جنبلاط.