لا يزال السجال محتدماً في الأوساط السياسية والثقافية السورية حول إعلان الاتحاد الديموقراطي الكردي وشخصيات عربية وآشورية وسريانية، تبني النظام الفيديرالي، ولا تزال حالة الرفض والإدانة لهذا الإعلان تتسع بصفته استثماراً انتهازياً وأنانياً للظرف الراهن ونية مبيتة لتقسيم البلاد وتفكيك البنية الوطنية.
بداية يجب التوقف عند بعض الحقائق، وأولها أن الدعوة للنظام الفيديرالي هي نظرياً دعوة للوحدة وليس للتقسيم أو لتفكيك المجتمع إلى كيانات مستقلة، فالفيديرالية بتبسيط هي اتفاق سياسي ودستوري بين مجموعة أقاليم لها صلاحيات واسعة لتحقيق الأنسب لخصوصيتها الثقافية ولبيئتها المحلية، شريطة الالتزام بالدولة الواحدة والخضوع لحكومة مركزية لها سلطات ومسؤوليات عامة لا تنازعها فيها الأقاليم ولا تتجاوزها، وعليه لا يصح الاستقواء بهاجس التقسيم للنيل من هذه الدعوة، حتى لو كان أصحابها يضمرون ذلك، ثانيها، أن المطالبة من قبل الأكراد بدولة فيديرالية ترجع لسبب رئيس هو خوفهم من ماضٍ ديكتاتوري شمولي فاض عليهم بمختلف أشكال الظلم والاضطهاد والتمييز، وكمحاولة للبحث عن صورة آمنة ومستقرة لعلاقة ندية بينهم وبين الأكثرية العربية لا يمكن التعدي عليها في المستقبل، وثالثها، أن النظام الفيديرالي بعيوبه وعثراته أثبت نجاعته في العديد من البلدان، فضلاً عن أنه الأقل سوءاً من الزاوية الوطنية والديموقراطية من نظام المحاصصة الإثنية والطائفية، التي يدعو إليها بعض الرافضين لمبدأ الفيديرالية.
وفي المقابل، ثمة محاذير كثيرة يجب التنبه إليها من الدعوة اليوم للفيديرالية في الخصوصية السورية وما خلفته سنوات من تفاقم الصراع الدموي في البلاد.
أولاً، أن يأتي تبني الفيديرالية في ظل استمرار العنف وما كرسه من شرخ وتنابذ اجتماعيين يجعلها أداة لمزيد من شحن الصراع وتسعيره بدل أن تكون وسيلة للسلام والتهدئة وإحياء روح التعايش بين مكونات المجتمع، ما ينذر بترسيخ التخندقات القائمة بقوة السلاح وفرض التقسيم كأمر واقع، فكيف الحال حين تطرح بتصرف أحادي وليس كمحصلة لجهد عموم السوريين ولاختيارهم الحر، ثم يشرع بتطبيقها كاستجابة لمطمع ذاتي وليس لحاجة موضوعية تستصرخ هذا النموذج من العلاقة بين المجتمع والسلطة؟! وكيف الحال حين لا يهتم دعاة الفيديرالية بتغيير أساليبهم القمعية المتفردة التي تتعارض مع شعارات الديموقراطية والندية والتشارك، أو بتبديد المخاوف المثارة حول الاستئثار ببعض الثروات الوطنية الطبيعية، كالنفط والمياه؟!
ثانياً، من الصعوبة نجاح فيديرالية سورية في ظل خارطة توزيع السكان تاريخياً، وتالياً في ظل غياب مناطق نقية لأقليات إثنية أو دينية، ويعرف الجميع مدى تداخل مكونات المجتمع على امتداد جغرافيا البلاد، وانعدام وجود وحدة مناطقية مستقرة خاصة بالأقليات، وإذا استثنينا منطقة عفرين والقرى المحيطة بها والتي تتميز بالفعل بتجانسها القومي الكردي، فالأمر في الشمال السوري مختلف، حيث يتعايش الأكراد هناك مع جماعات تفوقهم عدداً أحياناً من عرب وأشوريين وسريان وتركمان، هذا اللهم إلا إذا كانت النية أن تقترن الدعوة للفيديرالية بخطة لاستخدام سلاح التهجير أو التطهير العرقي القسري، لإعادة توزيع التموضعات السكانية.
ثالثاً، يفترض التفريق بين نوعين من الفيديرالية، تلك التي يطالب بها الأكراد على أساس تميزهم القومي، وأخرى تطرح على أساس خصوصية الانتماء الطائفي والمذهبي، وإذا كان الأساس القومي سبباً مفهوماً يحدوه هدف التحرر من مناخات الاضطهاد وإلغاء الهوية القومية، فإن الدافع المذهبي عاجز عن الإقناع، والقصد أن المسافة ليست بسيطة بين التكوين القومي والتكوين الطائفي، ففي حين تخلق عناصر وحدة اللغة والثقافة والتاريخ المشترك رغبة قوية لدى الأكراد في التبلور السياسي لتحويل هذه المقومات إلى واقع يلبي الأماني القومية، تخلو التجمعات المذهبية من هذه العناصر وتعتمد على جامع واحد هو الهوية الدينية وغالباً ما تكون مرتهنة لاجتهادات متعددة ومتباينة، ما ينعكس سلباً على جدية دوافعها ومشاركتها الوطنية والديموقراطية.
وبعبارة أخرى، إذا كانت الفيديرالية على أساس قومي، تضفي على المسار الديموقراطي النضج والتكامل، فإن الدعوة لفيديرالية على أساس مذهبي هي على النقيض عامل إغلاق ومحاولة تمييز غير صحية تفضي إلى إرباكات كثيرة في عملية البناء الديموقراطي ومفهوم المواطنة، وتفيد التجارب بأن تشجيع الانتماء الديني أو الطائفي كي يغدو خياراً سياسياً يقوّض وحدة المجتمع والدولة الوطنية، بينما يؤكد الاعتراف بالحضور القومي سياسياً واحترام حقوقه هذه الوحدة ويغنيها.
رابعاً، تزداد المخاطر والمحاذير من الدعوة اليوم للفيديرالية مع ازدياد حجم التدخلات الخارجية في الصراع الدائر، ومع احتمال توظيفها لتعزيز ارتهان الداخل لأطراف اقليمية ودولية، بعضها قد يستخدم الفيديرالية لمحاصرة خصومه المحليين وضمان استمرار نفوذه، وبعضها الآخر لتسعير الصراع ووأد احتمال انتقال مطلب الفيديرالية إلى بلدانه.
أخيراً، ومع أن بعض القوى الكردية لا تزال تثير الريبة والشك حول صدقية دعوتها للفيديرالية وأنها تتوسلها للانفصال عن الوطن، ثمة من يوحي بعدم جدية هذه الدعوة ما دامت عملياً غير قابلة للحياة، ويعتبرها مجرد ورقة تكتيكية تستهدف الضغط على مجرى المفاوضات بين السلطة والمعارضة والتأثير، عبر رفع السقف، في مساراتها كي تراعي حقوق الأكراد والتعددية السورية.
والحال، يخطئ من يعتقد بأن الرفض والإدانة للفيديرالية والعودة للتهديد بأساليب القهر والقسر يمكنها حماية وحدة البلاد، فالطريق المجربة للحفاظ على اللحمة الوطنية هي حين تنظم حياة السوريين قوانين لا تميز بينهم ويتلمسون بأنهم بشر متساوون في الحقوق والواجبات، طريق لا يمكن أن تنهض إلا نقداً للماضي المكتظ بكل أنواع الظلم والاضطهاد، وبالاعتراف أن النظام المركزي بنسخته الشمولية ذهب إلى غير رجعة، ما يعني ضرورة إعادة النظر بأفكارنا القديمة، وبشعاراتنا عن التعايش والتعددية، استناداً إلى أن وحدة الوطن ومعالجة تنوعه القومي والديني، لا يمكنهما أن تتحققا بصيغة صحية وعادلة إلا على قاعدة الديموقراطية ودولة المواطنة.