تتوالى خبريات المواجهات في الجرود الشمالية البقاعية، أو بالأحرى عند تخومها السورية مع الجماعات المسلحة التي توصف على جاري الكلام في هذه الأيام، بأنها تكفيرية إرهابية تبعاً لهوياتها التنظيمية المستجدة والمختصرة بـ»داعش» أولاً وبـ»النصرة» ثانياً.
وتوصيفها بالتكفيرية الإرهابية في مكانه، تبعاً لما تقوم به تلك الجماعات في مناطق نفوذها، ولما تقدمه من خدمات جليلات لا تقدّر بثمن (وأي ثمن) لكل من أراد ويريد تحطيم ثورة الشعب السوري والقضاء على موجتها ودوافعها ومراميها الاستثنائية، وفي مقدم هؤلاء بقايا سلطة الأسد والمحور الممانع الذي تقوده ايران وتقاتل به بواسطة ميليشياتها المذهبية اللبنانية والعراقية.. والأفغانية!
لكن (وهناك دائماً لكن) يفترض البعض أن العودة قليلاً الى الوراء مفيدة لوضع الأمور في نصابها الضميري، ولتشكيل منصة حرج مزدوج محلي وخارجي لطرفين معينين: في الشق الأول (المحلي) يُقال ان المواجهات تجري في مناطق قيل سابقاً انها «تحررت» استراتيجياً وميدانياً على أيدي «حزب الله» وسلطة الأسد، وفي مناسبتين كبيرتين. الأولى مع سقوط القصير في ريف حمص في حزيران العام 2013 والثانية مع «سقوط» يبرود في آذار 2014، علماً ان لهذا «السقوط» قصّة يعرفها كثيرون ولا تخرج عن سياق البيع والشراء مثلما لا تدخل في أي معطى حربي أو قتالي!
يتبين اليوم، وقبل اليوم، وسيتبين بعد اليوم بكثير، ان تلك المنطقة الاستراتيجية المسماة القلمون السوري لم تسقط لا استراتيجياً ولا تكتيكياً بل العكس هو الذي حصل بحيث إنها صارت مسرح استنزاف مفتوح لـ»حزب الله» أولاً ثم نقطة انطلاق للاعتداء على الجيش داخل الأراضي اللبنانية ثانياً.. أي ان منطق الحزب الذي راح في ظله، الى الداخل السوري تعرّض ويتعرّض لتسفيه مزدوج: عام يتصل بمسار الأمور الذي لم يتغير جذرياً، أي لم ينتصر الأسد ولم تنهزم الثورة! وخاص يتصل بأن «الحرب الاستباقية» المدّعاة، ضد التكفيريين والارهابيين «لمنعهم من الوصول إلينا» لم تؤدّ عملياً وواقعياً ودموياً وكارثياً سوى الى وصولهم إلينا!
وعلى الهامش، تفصيل بسيط: تبيّن للجميع و»حزب الله» أولهم، ان معظم الذين يقاتلون اليوم في القلمون ويهاجمون الجرود البقاعية الشمالية، هم أصلاً من القصير ويبرود اللتين «حرّرهما» الحزب وسوّى بيوت الأولى بالأرض.. وكانوا آنذاك، في صفوف «الجيش الحر» وغيره من الفصائل المعارضة، وصاروا اليوم في «داعش» و»النصرة»!
وفي تلك العودة الى الوراء يفيد الربط بين المعطى الأخير الخاص بالقصير ويبرود، بما هو أشمل وعلى مساحة الجغرافيا السورية. أي ان آب 2013 كان فاصلاً بين تاريخين: ما قبل «داعش» و»النصرة» وما بعدهما. ولو أمكن، مثلما يكرّر ويردد الرئيس الفرنسي هولاند وغيره كثيرون في الغرب والشرق وما بينهما، التحرك الفعلي والميداني لمعاقبة الأسد على فظاعاته الكيمياوية الافنائية في ذلك الآب اللهّاب، لما تمدّد «داعش» ولا انتعشت «النصرة» وما كان لكل هذا الدمار المرعب ان يتمدد بهذه الطريقة الكارثية من العراق الى سوريا الى جرود البقاع.. الى قلب باريس!
فرضيات التخمين تبقى مأسورة بعلم الغيب، لكن مسار التأريخ، يبقى محكوماً بالحقائق والوقائع، وهذه تقول، انه قبل آب 2013 لم تكن هناك تلك السطوة للارهاب التكفيري. وقبل ذهاب «حزب الله» الى القصير ويبرود لـ»تحريرهما» لم يكن لبنان يعرف من طراطيش النكبة السورية سوى الاعتداءات المتفرقة عن بُعد، التي كان يقوم بها جيش الأسد ضد بعض قرى وطرق وسهول عكار الشمالية!