قبل أيام استجدّ على القاموس السياسي اللبناني مصطلح قديم (المظلومية)، لكن جديده أنه نُسب هذه المرّة إلى المسيحيين، مع إعلان رئيس التيّار «الوطني الحرّ» الوزير جبران باسيل ما سمّاه «مظلومية المسيحيين»، وهو المصطلح الذي كان يُطلق على الشيعة كما على طوائف أو طبقات أخرى عبر التاريخ.
فماذا يعني هذا المصطلح؟ ولماذا نُسب إلى المسيحيين الذين طالما عانوا عقدة الخوف لكنهم لم يعرفوا مرّة عقدة «المظلومية»؟
بداية، المظلومية عقدة تاريخية عاناها عبيد أثينا القديمة وفلاحو الرومان، وبعدهم الشيعة ومن ثم «الاخوان المسلمون» (معتقلات الضباط الأحرار وأحزان سيد قطب في زنزانته).. وهي عقدة شبيهة بعقدة الشعور بالاضطهاد التي يسمّيها أطباء النفس «البارانويا» التي هي عبارة عن شعور مرضي بحت لا وجود له في الواقع. لكن المُصاب بهذه العقدة يشعر بالاضطهاد وهماً وتوّهماً حتى يتضخّم به هذا الشعور ويرى كل من حوله يضطهده.
وبذلك أصبحت «المظلومية» عنواناً من عناوين إدارة الصراع في منطقتنا، لا بل تحوّلت من عقدة تاريخية إلى ثقافة راهنة للتعبئة والتجييش، وسلاح تؤجّج بواسطته الصراعات على نحوٍ يخلط بين الماضي السحيق والحاضر المختلف تماماً. والمُصاب بداء «المظلومية» لا يرهق نفسه فقط، بل يُرهق مَن حوله، ليحمّلهم عقدة ذنب. ومهما حاول المحيطون بمصاب «المظلومية» منحه ما يشتكي من حرمانه فلا يشعر بالشبع، ما دفع الكثير من الباحثين إلى وصف «المظلومية» بأنها «بئر لا قعر لها«.
أمّا في لبنان فقد عرف أبناء الطائفة الشيعية داء «المظلومية»، في تاريخنا الحديث، بحكم الإرث الحُسَيْني من جهة، وبفعل الحرمان الذي أصابهم، من جهة ثانية، منذ الاستقلال إلى حين إقرار اتفاق الطائف، حتى إذا أراد الإمام المغيّب السيد موسى الصدر إطلاق لقب على حركة «أمل» التي أسّسها في الستينيات سمّاها حركة «المحرومين».
وبالفعل أجمعت النُخب اللبنانية، بما في ذلك «المارونية السياسية»، على الاعتراف بتلك «المظلومية» وإن لم تتم معالجتها قبل العام 1990، حيث أصبح للشيعة مكانة في النظام السياسي تساويهم بمكانة الطوائف الأخرى، لا بل تقدّموا على الآخرين بفعل الوصاية السورية بداية ومن ثم بفضل سلاح «حزب الله» لجهة النفوذ السياسي والخدماتي في الدولة وفي الميدان.
لكن هذا «الترقّي» الاجتماعي والسياسي لم يعنِ يوماً أن الغالبية الشيعية حصلت على حقوقها التي كانت «محرومة» منها، أو الغالبية المارونية أو السنّية أو غيرها من الطوائف، بفعل المساواة التي قامت بين جميع اللبنانيين.. في الحرمان. فجميع اللبنانيين أصبحوا محرومين من دولة قوية أو شفّافة أو قادرة على معالجة همومهم. كما أصبحوا جميعاً محرومين من رئيس للجمهورية، وكذلك من بيئة نظيفة بحكم التلوُّث الناجم عن أزمة النفايات، ومن الكهرباء والماء ومن السيادة الكاملة للدولة على كامل الأراضي اللبنانية.
معنى ذلك أن «المظلومية» داء أصاب جميع اللبنانيين ولم يوفّر أيّاً منهم؛ لكن بما أن هذا الداء واحدٌ من أدوات التعبئة الطائفية، كما درجت العادة، فلا بأس من استخدامه كغذاء ثقافي لغرض سياسي هنا أو آخر هناك. وهذه قاعدة اتّبعها كثيرون من زعماء الطوائف في لبنان حتى أصبحت «المظلومية» أو شعارات تاريخية أخرى تُعتمد «مداورة» بين الطوائف.
فالشيعة، مثلاً، الذين تميّزوا بشعار «المظلومية» قبل الطائف اقتبسوا الشعارات التاريخية للسنّة، بعده، حاملين لواء فلسطين، بينما اقتبس السنّة الشعارات التاريخية للموارنة مثل «لبنان أولاً». أمّا الموارنة فذهبوا إلى اقتباس شعارات الشيعة وأوّلها «الحقوق» وآخرها «المظلومية».