تمثّل الكتيبة النيبالية العاملة في إطار القوات الدولية المعززة «يونيفيل» في جنوب لبنان، سواء بعديدها، أو بالصلات الطيبة التي نسجتها مع الناس، أو بالمدة الزمنية الطويلة لنهوضها بمهماتها، عنصراً أساسياً، ومستقرّاً، من عناصر القوة الدولية.
أنْ يساهم نيباليون كثر عبر كل هذه السنين في قضية الجنوب والجنوبيين، فهذا لا يجعل النيبال تلك البلاد البعيدة عنا جغرافياً. عندما تطوف في أنحائها سيفاجئك كثيراً أنّهم خدموا في الجنوب اللبناني، أو لهم أهل هناك، ويسردون عليك أسماء قرانا.
من هنا، فإنّ مسألة إغاثية إنسانية أممية، تتعلّق بالتكاتف مع هذا الشعب الفقير المنكوب بكارثة طبيعية، معطوفة على كارثة عمرانية مزمنة، وضريبة بقائه شعباً تفادى الاستعمار الأوروبي لصالح غلاظة الأنساق الاجتماعية الرجعية فيه لعقود مديدة، هي مسألة تعني لبنان واللبنانيين.
واللبنانيون مثل سواهم من شعوب الأرض تابعوا الأخبار المفجعة من كتمندو. وهذا ينبّه الى شيء مهم: الخدمة الخاطئة للقضايا الخارجية الصحيحة، ثم الخدمة المجانية للقضايا الخارجية الخاطئة، تمنع بلدنا من أن يؤدّي الدور الذي يتوجب عليه انسانياً بالشكل الذي تقوم به شعوب المعمورة، حتى ولو كان الشعب المنكوب له أيادٍ بيضٌ على قطعة عزيزة من وطننا، بمعية كتيبته في «يونيفيل». في مكان ما، فإنّ مغامرات الممانعة هنا وهناك للتدخل مرة في مصر (خلية شهاب)، ومرة في بلغاريا (تفجير الباص)، ومرة في سوريا (استنزاف دموي متواصل)، ومرة في اليمن (لعب بمصالح وأرزاق عشرات آلاف اللبنانيين)، وقبلها في الأرجنتين (تفجير بيونس ايرس)، والبوسنة (مرتزقة اشتراهم وباعهم علي عزت بيغوفيتش)، وفي العراق (سبق للمالكي اتهام «حزب الله» بدعم «القاعدة» ولم يمنع ذلك الحزب من دعم المالكي لاحقاً)، تمنع هذا البلد الصغير من القيام بدور الحد الأدنى على الساحة الدولية، وتحديداً تجاه شعوب الشرق الأخرى، ومن ضمنها الشعب النيبالي، تماماً مثلما ان الممانعة عندنا، التابعة لممانعة نظام ولاية الفقيه الايرانية، لا توفّر الحيوية اللازمة لتوسيع العلاقات الاقتصادية والتجارية مع إيران مثلاً، إنما العكس تماماً. لا «الاستدارة» نحو الشرق، اقتصادياً، تعني الممانعة، ولا «الاستدارة» نحوه، انسانياً، تعني الممانعة. كذلك أخصام الممانعة، لا تدخل هذه الاعتبارات في حسابهم، ويعتبرونها «أشياء نافلة» وغير مهمة.
ثمة فوارق كثيرة بين لبنان والنيبال طبعاً، لكن ثمة تشابهات مدهشة. هذا بلد جبلي ممتد على الساحل، وذاك بلد جبلي داخلي جزء من «عالم الهيملايا» المتعدد الأقاليم والأقوام. في البلدين، استخدمت استعارة «سويسرا الشرق» في وقت من الأوقات (كما استخدمت في كشمير وأرمينيا وكردستان). في البلدين، تجربة حرب أهلية، ومشكلة حصرية السلاح بعدها، مع فارق كبير بين دائرة النقاش حول دمج المتمردين الماويين في الجيش الملكي السابق، وبين دائرة انعدام النقاش لبنانياً حول «سلاح حزب الله». في البلدين، مؤسسات سياسية معطوبة، إلا أن النيبال بعد الحرب الأهلية احتكمت للانتخابات، وحصلت فيها تجربة تداول سلطة، وحيوية الأحزاب والنقابات فيها تجعلها أكثر تقدماً في نموها السياسي من لبنان، الذي يبقى بالطبع بلداً ثرياً للغاية مقابلة بالنيبال. في البلدين أيضاً، حالتان مختلفتان من «أزمة التعايش مع الجوار». لبنان بين اسرائيل والنظام السوري. النيبال بين جارتين لدودتين تتنازعان النفوذ عليه: الصين والهند. أكثر من مرة سمع كاتب هذه السطور في كتمندو صحافيوها وأكاديميوها يقارنون بين علاقة النيبال بالهند وعلاقة لبنان بسوريا، وبين «الماويين» و«حزب الله». يبقى ان ماويي النيبال لا يتدخلون لنصرة رفاقهم الماويين في الهند مثلاً (التمرّد النكسالي)، في حين يتجاوزهم «حزب الله» في «الأممية المذهبية».
أنْ لا يكون للبنان اسهام إسعافي وإغاثي يليق به دعماً للشعب النيبالي في مواجهة الزلزال، فهذا لا يبرّر بأي شكل، خصوصاً مع وجود قوة نيبالية في الجنوب. لكنها، في نهاية الأمر، النتيجة الطبيعية لـ«التورّط اللبناني» في جبهات أخرى، من ضمن ذهنية مهيمنة لبنانياً، و«متعالية على الشرق»، شرق المنكوبين والمظلومين والفقراء الحقيقيين.. وليس المعدم البائس الفقير الزاهد علي عبدالله صالح.