قد يغدو من المبالغات اجراء مقارنة بين تيار مدني علماني صاعد بين الشباب اللبناني وتيار طائفي غارق حتى العظم في عصبياته. فالاتجاهات العلمانية في لبنان تعرضت قديما وحديثا لضربات قاصمة امست معها يتيمة الا من خلجات طلوع وهبوط بالكاد تقوى معها على التدليل انها موجودة في “المجتمعات” الطوائفية والمذهبية اللبنانية الأشد قوة واستئسادا وتوغلا في عصبياتها. وجاءت الحرب المذهبية التي تحرق الشرق الاوسط لتضع لبنان في مصاف البلد، شبه الجزيرة الوحيدة، الذي يختبر فيه التمازج الحضاري بين الأديان كآخر خط دفاع عن تعايش الحضارات.
نقول ذلك انطلاقا من واقعة “هامشية” اذا ما قيست بالاحداث والفظاعات الجارية من حولنا ولكنها تحمل ما يكفي من الرمزية. على بعد ساعات قليلة حصلت قبل ايام مفارقة شديدة التناقض بين تظاهرة لمؤيدي الزواج المدني المحتجين على توقف وزارة الداخلية عن تسجيل العقود المدنية ومعركة همجية في ملعب رياضي اتخذت طابعا طائفيا سافرا. بطبيعة الحال لم تجد الواقعتان ادنى التفاتة او اهتمام من الطاقم السياسي الداخلي الغارق في غيبوبة ومجموعة إخفاقات متعاقبة لا تقتصر على تفريخ الازمات فحسب بل تنذر بتعميم الفراغات والاطاحة بالنظام الدستوري جملة وتفصيلا.
مع ذلك تدلل هذه الواقعة على شيء ما صحي في رفع عينتين امام الرأي العام الداخلي والخارجي (ان كان هناك من يرصدنا بعد من الخارج) حيال جدل داخلي معتمل في الصفوف الشبابية اللبنانية تحت وقع الحريق المذهبي الذي يلتهم المحيط ويتهدد لبنان. انفجار الغرائز الطائفية في لبنان ليس غريبا عن “تقاليده” وتراكماته التاريخية بل وحروبه. ولا اوهام لدى احد في ان معركة بالتضارب الهمجي على ملعب رياضي ليست الا من “تقاليد” شباب مشحون بالغرائز بدليل ان شعارات الوحدة السياسية نفسها لا تقوى على منع تفجر العصبيات في اي لحظة وعلى اي خلفية ولو تافهة. اما السير في اتجاه علماني فقد يكون الآن اشبه بترف اليتامى الذي لا يلقى ادنى صدى او تأثير في وقت ترتكب فيه فظاعات إنسانية وبشرية بحق الأقليات في المنطقة مهددة بابادتها فعلا ولا يرف جفن في العالم العربي ولا يحرك العالم الغربي ساكنا. وعلى رغم هذه الصورة اليائسة داخليا واقليميا لا يمكن إنكار اهمية صورة يصدرها شارع لبناني، مهما كان حجمه، بتلوين علماني يرفع لواءه شباب نخبوي متعدد الطائفة والمذهب والاتجاه السياسي والحزبي. منذ فجر الطائف وما قبله وملف الدولة المدنية كلها على الطاولة، فلا ضير الآن ان اقتصر تحريك الملف على نخبة شبابية فيما الجمهورية كلها برسم تقرير المصير الهائم على أيدي أبطال العصبيات وآلهتها.