IMLebanon

عن «مفاوضات السلام» بين واشنطن وطهران

لسنوات خلت تصدرت «أزمة الشرق الأوسط» اهتمامات الدول الكبرى. وكانت تعني النزاع العربي ـ الإسرائيلي الذي شغل العالم، خصوصاً بعد حرب 1973 عندما شهر العرب بقيادة الملك فيصل «سلاح النفط»، فاهتز الاقتصاد العالمي واستقرار الدول الصناعية الكبرى في أوروبا وأميركا واليابان. أما اليوم فالأولويات مختلفة وكذلك المصالح الإستراتيجية للدول الكبرى في المنطقة.

في زمن الحرب الباردة قواعد الاشتباك كانت معروفة ومحددة. طرقت الحرب الباردة أبواب الشرق الأوسط باكراً منذ أواخر الأربعينيات، بدءاً بأزمة اليونان التي حَدَت بالرئيس الأميركي ترومان لإعلان سياسة خارجية جديدة (Truman Doctrine) للتصدي للاتحاد السوفياتي، ومن ثم أزمة إيران (حركة مصدّق)، وفي العالم العربي «حلف بغداد» في 1955 أطلق الصدام بين مصر الناصرية وبريطانيا وأميركا وحلفائها من دول المنطقة. «حلف بغداد» كان قنبلة صوتية بالمقارنة مع القنبلة الفعلية، أي حرب السويس في 1956 بعد تأميم عبد الناصر قناة السويس والرد المتهور عليه في العدوان الثلاثي الذي جمع بريطانيا وفرنسا وضيفة الشرف إسرائيل. تراجعت الحرب الباردة في المنطقة ليحلّ مكانها حرب باردة عربية بعد سقوط الجمهورية العربية المتحدة في 1961 وأخرى ساخنة في اليمن في 1962، ولاحقاً حرب 1967 وتداعياتها العميقة على العالم العربي.

هذه الأوضاع تبدلت بعد حرب 1973 التي فاجأت بها مصر وسوريا إسرائيل بعدما كان الاعتقاد السائد ان العرب لن يُقدموا على مغامرة عسكرية جديدة ضد إسرائيل بعد ست سنوات على الهزيمة. لكن تحدي ما بعد حرب 1973 تمثل بكيفية توزيع المغانم، فأنتج اتفاقية فك ارتباط بين سوريا وإسرائيل في 1974 ومعاهدة سلام بين مصر وإسرائيل في 1979. وفي الثمانينيات، اندلعت الحرب العراقية ـ الإيرانية طيلة ثماني سنوات، تبعها اجتياح العراق الكويت وحرب تحرير الكويت. الغزو الأميركي للعراق في 2003 قلب المعادلات والحسابات، ومنها انسحاب الجيش الأميركي من العراق بعد ان تحول مشروع «الشرق الأوسط الجديد» إلى «صحوات» متجذرة بالقديم والموروث وباتت إيران حارسة الهيكل العراقي المتصدع. فكان التهديد عظيماً لدول مجلس التعاون الخليجي ولدول أخرى، لكن بعد فوات الأوان.

دولة الخلافة الداعشية كانت المصيبة التي جمعت أخيراً الأضداد بعد ربيع عربي أزهر تطرفاً وعنفاً ولم ينتج بدائل ديموقراطية ثابتة لأنظمة الحكم السلطوية. هكذا تحول التصدي للإرهاب في الشرق الأوسط محطة جامعة بين جديد متعثر وقديم متنامٍ. كما ان المسلمات في السياسة الخارجية للدول الكبرى، لا سيما أميركا، تغيرت وأبرزها أمن إسرائيل والأهمية الإستراتيجية للنفط.

إسرائيل اليوم في أمان غير مسبوق، خصوصاً إذا ما اختارت عدم الاعتداء على جيرانها. فهي متفوقة عسكرياً في المحيط الإقليمي حيث تفكك الدول في أوجه، وحيث تحرير فلسطين من الاحتلال بات يُختزل بالحفاظ على السلطة الوطنية بالحد المالي المطلوب والتلاقي المتعثر للقيادة السياسية بين غزة والضفة. كما أن النفط، بعد انخفاض أسعاره وبسبب إمكان بروز طاقة بديلة من النفط الصخري، تراجعت أهميته الإستراتيجية بالمقارنة مع مراحل سابقة عندما كان الإنتاج العربي من النفط يشكل 70% من الاستهلاك العالمي في السبعينيات وهو اليوم لا يتجاوز 30%.

يبقى الإرهاب المعولم، وهو مصدر الخطر الداهم إقليمياً ودولياً. إلا ان مدة استعماله محدودة ولم يعد سلاحاً مجدياً للمقايضة، فالمتضررون منه كثر وهم بالدرجة الأولى العرب والمسلمون. روسيا ضربت الإرهاب في الشيشان وأميركا حاربته في أفغانستان والعراق، والعالم اليوم يخوض حرباً على الإرهاب في العراق وسوريا. أما تركيا التي لعبت بنار الحركات الجهادية المتطرفة فلن تسلم من حروقه. فمن سياسة «صفر مشكلات»، انتقلت تركيا إلى مشكلات بالجملة، مع دول الجوار العربي ومع إسرائيل وبعض دول الحلف الأطلسي.

المشروع الأكثر مغامرة وطموحاً في شرق أوسط مطلع القرن الحادي والعشرين يتمثل «بمفاوضات السلام» بين أميركا (والغرب) وإيران، وهي الدولة الإقليمية التي لم تنهك قواها. فإذا كان قرار إدارة الرئيس أوباما إنهاء نزاع دام أكثر من ستة قرون مع كوبا ممكناً، فإن إنهاء النزاع مع إيران بعد نحو أربعة قرون لم يعد مستحيلاً. أما «الشيطان الأكبر» فحسابه في جهنم أو ربما حيث حشدٌ من الداعشيين الذين قد يتابعون الجهاد ضد الكفار في ظروف مؤاتية. إنه شرق أوسط جديد متغير ومتراجع إستراتيجياً لكن بكتمان شديد.