لم تتغيّر توقعات صندوق النقد الدولي لنمو الناتج المحلّي في لبنان لعام 2015 مقارنة بعام 2014 والتي بقيت على نسبة %1.5 مقارنة بنسبة نمو %9 خلال فترة الـ 2009 – 2010. ففي تقريره السنوي عن منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، توقّع الصندوق أن يبلغ نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في لبنان نسبة %1,5 في 2015 مقارنة بـ %4,5 في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، و4,2% في الاقتصاديات المستوردة للنفط، و4,3% في الدول العربية التي تمر بمرحلة انتقالية، بإستثناء ليبيا. وقدّر صندوق النقد الدولي الناتج المحلّي الإجمالي الاسمي في لبنان بمبلغ 45,5 مليار دولار في 2015 مقارنة بـ44,3 ملياراً في 2014، وهو ما يمثل %7,6 من مجموع الناتج المحلي الإجمالي للدول المستوردة للنفط في المنطقة. وبذلك، يكون الاقتصاد اللبناني الاقتصاد الـ 13 الأكبر في العالم العربي. كما توقّع صندوق النقد أن يبلغ العجز في الموازنة نسبة %10,2 من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2015، مقارنة بعجز قدره %9,4 من الناتج المحلي في 2014. وتوقع ان تشكل الإيرادات العامة %21,4 من الناتج المحلي الإجمالي في 2015. كما قدّر الصندوق ان تشكل النفقات العامة في لبنان %32,9 من الناتج المحلي الإجمالي. وتوقّع كذلك أن يرتفع الدين العام إلى %151,6 من الناتج المحلي في نهاية 2015، وان يصل مجموع الدين الخارجي إلى %179,6 من الناتج المحلي الإجمالي في نهاية 2015، أي بارتفاع عن %176,7 من الناتج المحلي في نهاية العام 2014. كما قدّر الصندوق صادرات السلع والخدمات من لبنان بمبلغ 26,92 ملياراً في 2015، مقارنةً بـ 26 ملياراً في 2014. وقدّر واردات السلع والخدمات بمبلغ 36,1 ملياراً في 2015، أي بارتفاع من 34,1 ملياراً في 2014. وتوقّع صندوق النقد الدولي أن يبلغ العجز في الحساب الجاري في لبنان 7,2 مليارات دولار او نسبة %15,8 من الناتج المحلي الإجمالي في 2015. كما توقّع أن يبلغ العجز في الحساب الجاري 6,6 مليارات او نسبة %13,9 من الناتج المحلي في 2015. وتوقع الصندوق ان يصل إجمالي الاحتياطي من العملات الأجنبية في لبنان إلى 38,8 ملياراً في نهاية 2015، حيث كان 35,4 ملياراً في نهاية 2014.
رغم قلة الكلام الرسمي عن التقييم العام للوضع الاقتصادي، إلا أن الأرقام والمعطيات تؤكد أن العام 2014 لن يكون أفضل من الأعوام السابقة. عملياً، لن تختلف المشاكل الاقتصادية عما سبقها لأن عجز الموازنة على زيادة، والدين العام سوف يبلغ حدوداً خطيرة. ويتوقع لهذه الأرقام أن تكون على زيادة مطردة مع نهاية العام الحالي، نتيجة لاستمرار الأزمات السياسية في المنطقة وربط مصيرنا بالملف الأقليمي. كما أن العجز بالميزان التجاري يؤكد نظرية أننا نستهلك أكثر بكثير مما ننتج؛ وأن أزمة الكهرباء المفتوحة ما زالت تلقي بظلالها على الموازنة العامة والتي كلفت الخزينة أكثر من 24 مليار دولار وهي مستمرة على وتيرة استنزافها سنوياً بما يناهز المليار دولار. أبرز ما ستواجهه الحكومة يتعلق بتوفير السيولة النقدية لتغطية النفقات الجارية، بما فيها سلسلة الرتب والرواتب. كما ستواجه الحكومة خلال العام الحالي ضغطاً شعبياً لتوفير فرص العمل للشباب الذين ترتفع بينهم معدلات البطالة إلى حدود 47%. وتأثير هذه المشكلة لا يتوقف عند حدودها الاقتصادية، بل يتجاوز ذلك؛ بحيث تؤثر على الوضع السياسي والسلم الاجتماعي. ولا بد أن يتحرك المجتمع اللبناني من خلال حراك شعبي للمطالبة بالإصلاح الشامل التي تتمثل بمحاربة ثلاثية الفقر، والبطالة، والفساد.
و لن نسرد المؤشرات الاقتصادية العامة لنستشهد على حرج الموقف وتأزمه، ولكن يكفي الحديث الدائر على ألسنة المواطنين بمختلف مستوياتهم حول الارتفاع الحاد وغير المسبوق في أسعار معظم السلع الأساسية، وشعور الناس بالغلاء وعجز ما في جيوبهم من أموال قليلة عن تلبية احتياجات أسرهم، كذلك نقل الأزمة الاقتصادية من اجتماعات مجلس الحكومة إلى أحاديث المقاهي والبيوت والمواصلات العامة حيث لم يعد المواطن العادي يحتمل ولا يطيق صبراً على التصريحات الحكومية الواعدة بإمكانية تحسن الأحوال، هذه التصريحات فقدت الصلاحية والمصداقية معاً. التحديات كبيرة، والتخفيف منها بحاجة إلى نظرة مختلفة لكيفية إدارة الملف الاقتصادي، بحيث يبتعد القائمون عليه عن التنافس في ما بينهم، ويتعاملون مع المشهد بمنظور شمولي يوحد جهودهم، وفق رؤية بعيدة المدى تقود إلى الخروج التدريجي من اللامبالاة الى اطلاق مبادرات اقتصادية تبني دولة الإنتاج. والمشكلة واقعة اذا لم تبادر الحكومة بمشاريع انمائية مستعجلة مما يعني أن البلد سيكون أمام أزمة من نوع جديد؛ فلا الحكومة قادرة على توفير الوظائف، ولا القطاع الخاص سوف يبادر بهذا الاتجاه.
ان الاستمرار وفق المعادلة الحالية صعب وغير مجد، طالما أن العقل الذي ينظم العملية الاقتصادية هو ذاته، وينأى بنفسه عن سياسة تقوم على استخدام أمثل للموارد المحلية، وزيادتها بأساليب لا تزيد العبء الضريبي على الأفراد. وللتذكير، فعندما بدأ الحراك المطالب بالإصلاح، قيل إن العوامل التي حركت الشارع هي اقتصادية ومعيشية. لكن الحال لم تتغير، بل على العكس، إذ صارت أسوأ، كون الاعتماد على الخارج بازدياد. ومن ثم بات من الضروري على الحكومة أن تصارح الشعب بحقيقة الأزمة وأبعادها وان تكف عن فقاعاتها الاعلامية وعن أحاديث المليارات من الدولارات التي تتدفق من كل حدب وصوب على لبنان كوجهة جذب للاستثمارات الخارجية وان تكف عن الوعود التي لم ير المواطنون لها أثراً على ارض الواقع، وأن تكاشف الشعب بأن لبنان لم يعد أجمل بلد في العالم.
لقد بات الشارع يطرح هواجسه ومخاوفه المشروعة بشأن جدية الخطاب الإصلاحي للحكومة ويدقق في المسافة الفاصلة بين الخطاب وبين ترجمته العملية. لقد قامت الحكومات السابقة بإصلاحات سطحية لم تنسحب إلى عمق المشكلة والسبب هو أن الحكومات المتعاقبة لم تكن تمتلك الشجاعة السياسية بل كان يمتلكها الخوف الدائم لقول الحقيقة، وتغيب لديها الجرأة السياسية الكافية على تحمل تبعات الإصلاح وبالتالي أداء ثمن الإصلاح. لهذا فالمطلوب بداية هو الاستغناء عن العمل وفق المبدأ الدارج الذي يعتمده السياسي اللبناني منذ الاستقلال في تدبيره للشأن العام ومفاده « كم من أمور قضيناها بتركها لتصلح نفسها بنفسها».
إن إصلاح الوضع في لبنان اليوم صعب لكنه غير مستحيل فالاقتصاد الوطني يعيش أزمة العجز وثقل المديونية وعدم عدالة النظام الضريبي، كما أن هناك أوضاع اجتماعية غير ميسرة، وهناك حراك اجتماعي يطالب باصلاحات وأي عملية إصلاح لا بد لها من ثمن. نعم للإصلاح ثمن وقد يكون في بعض الأحيان ثمنا باهظا وهذا للأسف ما تخشاه الحكومة فهي لا زالت تتعامل بالمسكنات الوقتية مثلها مثل الحكومات السابقة. لن يتحمل الشعب ثمن الإصلاح إلا إذا شعر أن الحكومة بدأت بنفسها، فالحكومة لا تريد أن تواجه الحقيقة وتستأصل سرطان الفساد الذي بات ينخر البلاد والعباد على حساب ملايين الفقراء والعاطلين، فهي مطالبة أولا وقبل كل شئ بضرب مافيا الفساد وناهبي الصناديق والمال العام دون هوادة وليس فقط ترويج خطاب على طريقة عفا الله عما مضى. وإذا كان من أحد يجب عليه أن يدفع ثمن الإصلاح ويتحمل آلامه، فهم أولئك الذين استفادوا من السياسة الاقتصادية في السنوات السابقة، والذين اصطلح على تسميتهم بالمفسدين لأن في جيوب هؤلاء وخزائنهم ما يكفي لتمويل خطة الحكومة الإنقاذية والتنموية.
إذا كان من أحد يجب عليه أن يدفع ثمن هذه الإصلاحات بشكل منطقي فهي تلك المافيات والمستزلمين الذين تراكمت لديهم الثروة وعلى حساب خزينة الدولة والمواطن الصالح. وفي هذا الصدد بات من واجب الحكومة أن تعيد النظر في قانون الاثراء غير المشروع كأحد أشكال تحقيق العدالة الاجتماعية ومساعدة الفقراء من خلال الحصول على الأموال المنهوبة، وكذلك تضييق الهوة بين الطبقات الاجتماعية من أغنياء وفقراء.
وفي الأخير يمكن القول: ربما يكون الإصلاح مستحيلاً إذا لم يكن هنالك توافق عام وإجماع وطني داخل المجتمع اللبناني بمختلف مكوناته السياسية من موالاة ومعارضة، بمعنى آخر فعملية الإصلاح المنشود تتطلب تضافر جهود كل الفاعلين المؤسساتيين والمجتمع المدني لصياغة خريطة الطريق للإنقاذ: حكومة قوية تمتلك الشجاعة لقول الحقيقة ومستعدة لتحمل ثمن الإصلاح ومجتمع متعاون ومؤسسات دستورية منخرطة لإنجاز ورش الإصلاح متعددة الجوانب، كما امتلاك إستراتيجية موحدة والتواصل مع المؤسسات المدنية لتحديد الأولويات، تلك إذن هي المفاتيح الأساسية لمباشرة الإصلاح وتتمثل هذه الأولويات في محاربة الرشوة والفساد، وتكريس منظومة الحوكمة في المرافق العامة والرسمية أولاً، ثم إصلاح الإطار الماكرو اقتصادي للبلاد الذي أنهكته التدخلات الخارجية التي أخرت تقدم لبنان!!.