IMLebanon

لكل أزمة تجّارها: «تعزيز» الدولة بكسْر بُنية الاحتكار

 

لم تكد الحرب تضع أوزارها، حتى ظهر تجّار الأزمات. احتكار السلع المطلوبة للترميم والإعمار بالتزامن مع ارتفاع أسعارها، من المستورد مباشرة، ثم ممّن يُعدّون الحلقة الوسيطة بين المستورد و«الصنايعي»، وصولاً إلى حلقة «الصنايعي» – المستهلك. ظهور هؤلاء في هذه اللحظة تحديداً، يمثّل تحديّاً أمام منظّري بناء الدولة والمؤسّسات الذين يقفون على يمين ويسار ووسط ما حصل في الأسابيع الماضية. المسألة الآن، تتمحور حول مقاومة البنية الاحتكارية التاريخية في لبنان، والتي تغذّي أرباحها من المآسي، وسط استسهال من السلطة في التعامل مع أركان هذه البنية إلى حدّ الانبطاح الكامل لرغباتهم. فرغم صدور قوانين مثل مكافحة الاحتكار وحماية المستهلك، ولو أقرّت مشوّهة، إلا أنه لم يطبّق منها شيء، نزولاً عند رغبات التجّار الذين يحوّلون «الفلتان» إلى فرصة للربح.

 

تبيّن بعد دراسة 300 سوق في لبنان أن التركّز الاحتكاري مترسّخ تاريخياً في بنية القطاعات اللبنانية

 

 

لا يبدو أن هذه السلطة حقّقت أي تقدّم في هذا الاتجاه طوال السنوات الماضية. في الواقع، لم يكلّ الباحث الاقتصادي كمال حمدان عن تكرار ما توصّل إليه من نتائج حين أنجز دراسة للبنك الدولي ووزارة الاقتصاد أيام المرحوم باسل فليحان عن التركّز الاحتكاري في لبنان. فقد تبيّن له بعد دراسة 300 سوق في لبنان، أن التركّز الاحتكاري مترسّخ تاريخياً في بنية القطاعات اللبنانية، إذ يبلغ مستوى السيطرة في هذه الأسواق، من ثلاث شركات، نحو 70% من حجم الأعمال في كل قطاع. ويترافق ذلك مع غياب رسمي كبير للإحصاءات والمؤشّرات الدورية الضرورية لمتابعة تفاصيل هذا التركّز وأسعار السلع والخدمات سواء بهدف منع التجّار من استغلال حاجات الناس أو بهدف تفكيك هذه البنية. وفي ظل محدودية الرقابة، يتحوّل نسق الاقتصاد إلى «فلتان» يمنح وزناً أكبر لاحتكارات القلّة. هذا الأمر حصل سابقاً، ومن أبرز محطاته الفترة التي تلت عدوان تموز 2006، وفترة ما بعد انفجار مرفأ بيروت، وفي بداية عدوان 2024. واليوم، يسجّل النمط نفسه مع انتهاء الحرب. السلع المرتبطة بالإيواء مثل الاسفنج والوسائد والحرامات وأدوات المطبخ رُفعت أسعارها، ثم انتهت هذه الموجة لترتفع أسعار مواد البناء المرتبطة بالترميم الجزئي مثل الزجاج والألمنيوم وأعمال النجارة وغيرها.

ويأتي ارتفاع هذه الأسعار من دون أي سبب فعلي مرتبط بارتفاع أسعارها محلياً أو خارجياً؛ فالليرة مستقرّة تجاه الدولار، ولم يظهر أي قصور في سلاسل التوريد والتصنيع سواء بالنسبة إلى السلع المستوردة أو بالنسبة إلى الخدمات المحلية. ما يحصل هو مجرّد عملية استغلال لم ترتق الدولة إلى مستوى التعامل معها. عملياً، الدولة تظهر كأنها تتباطأ الخطى، ولم تسارع بعد نحو أي خطوة تجاه إعادة الإعمار، سوى ما ورد في الخطابات. وبحسب المعطيات، سيعقد اليوم اجتماع في رئاسة الحكومة لدرس ومناقشة تقرير المركز الوطني للبحوث عن تقديراته للأضرار، علماً أن هذه التقديرات كانت متوافرة بشكل شبه يومي منذ أشهر، وعرضه اليوم بهذا الشكل هو حصيلة الضياع الذي يصيب «الدولة» بشأن إعادة الإعمار. فهي لا تجد نفسها معنية بهذا الأمر، وتحاول البحث عن وسائل «استجداء» للمساعدات الخارجية، لا بل يظهر أنها ستؤجل إعادة إعمار البنية التحتية في المناطق المنكوبة في انتظار «التمويل الخارجي». ولمن يقول إن الدولة لا تملك الأموال، يستحسن له أن يتمعّن في ميزانية مصرف لبنان حيث توجد أكثر من 1.6 مليار دولار من الاحتياطات الحرّة بالعملة الأجنبية وأكثر من 10 مليارات دولار من السيولة بالعملة الأجنبية التي يعود قسم كبير منها للدولة في حسابات الخزينة وحسابات المؤسسات العامة لدى المصرف. لكن رغبة «الدولة» ألا تنفق لأنها «متقشّفة» سواء قبل الحرب أو بعدها.

في الرقابة، ما زالت القوانين التي أقرّت لمكافحة الاحتكار وحماية المستهلك بلا مراسيم تنفيذية، أي إنها حبر على ورق. والمبادرة الوحيدة في هذا الاتجاه، وإن كانت متأخرة بعض الشيء، فإن ما يقوم به المدير العام لوزارة الاقتصاد محمد بوحيدر، الذي سيلملم شتات فريق «حماية المستهلك» الذي أصابه ما أصاب الكثير من أبناء الضاحية والجنوب والبقاع، ليطلق اليوم حملة مراقبة لأسعار مواد البناء والإعمار. صحيح أن هذه الرقابة غير كافية لأن خطوات ما بعد الرقابة، للمخالفين، ليست ذات وزن، إنما هذا ما هو متاح الآن. مشكلة الآليات الحكومية لهذه الرقابة أنها ليست محصورة، أي إنه يتوجب على أكثر من وزارة المشاركة فيها حتى تصبح فاعلة، وهذا مشروط أيضاً بتوافر الرغبة السياسية في التغيير. إذ إن «تجّار الأزمات» ليسوا هواة، بل هم جزء من نسيج السلطة والأحزاب والأطراف الفاعلة. هم أبناء هذا «النموذج» الذي بلغ مرحلة الإفلاس ودفع أبناءه نحو الهجرة ويرفض الاعتراف بأنه خسر أكثر من 90% من مدخّراتهم لأن المصارف تواطأت مع مصرف لبنان وأزلام السلطة المتعاقبين على تبديدها، على مدى عقدين ونصف عقد. والمصارف لم تكن الجزء الأكثر نفوذاً وأهمية في بنية النموذج الاحتكاري فقط، بل كانت هي القلب النابض لهذا النموذج وتاجر السلم والحرب. ما يؤمل به، هو كسر «النموذج» القائم على البنية الاحتكارية في كل خطوة وفعل. إن لم يكن الآن وسط كل هذا الصراخ عن ضرورة «تعزيز» أو «تفعيل» الدولة، فمتى؟ أم أن الدولة مجرّد صراع على الحصص الطائفية، وعلى الموقع السياسي وارتباطاته، والتنافس على توزيع المغانم والمنافع؟