Site icon IMLebanon

عن السعودية في لبنان: داعية وحدة أم متسبّب بالفتنة؟

مع تسنّم الأمير سلمان بن عبد العزيز العرش في المملكة المذهّبة، معززاً بأمراء الجيل الثالث من الأسرة السعودية، يتقدمهم نجله المتعجل محمد بن سلمان، انتقلت مملكة الصمت والذهب من موقعها الدفاعي ـ تاريخياً ـ إلى موقع هجومي باتساع الوطن العربي، مشرقاً ومغرباً، مع اندفاعة افريقية جامحة، وتجاوز لحدود الخصومة مع المعسكر المعادي، تاريخياً، ممثلاً في الصين وصولاً إلى الاتحاد الروسي بقيادة محطّم الأسوار بوتين.

كان الملك الراحل عبد الله قد باشر عملية التحوّل بروية وهدوء، لكن «العهد الجديد» بدا متعجلاً، مستفيداً من الأوضاع المأزومة التي تعيشها الدول التي طالما لعبت الدور الريادي عربياً… فمصر منهكة ومشغولة بأزماتها الداخلية، اقتصادياً بالأساس ومن ثم سياسياً واجتماعياً… والعراق غارق في همومه الثقيلة التي تتهدّده في وحدة دولته، حتى من قبل أن تقتحمه جحافل «داعش» فتحتل عاصمته الثانية، الموصل، وتتمدد في وسطه وغربه مقتربة من بغداد ذاتها. أما سوريا فمعطلة الدور والفعل نتيجة الحرب فيها وعليها والتي تدخل الآن عامها السادس، وقد انخرط فيها معظم العالم، سواء عبر قوى دولية نظامية كما حال الروس والأميركيين (ولو بدور عسكري جوي محدود وبتشجيع سياسي معلن للأكراد في سوريا له انعكاساته المباشرة على الأكراد في تركيا مما يفاقم أزمة الخيار التي تربك الرئيس التركي أردوغان وحكومته التي شكلتها الرغبة بمواجهة حاسمة مع الأكراد)..

وهكذا ارتدَت المملكة في العهد الجديد «الكاكي» واندفعت لتؤكد قدراتها القتالية في اليمن، بداية، مستدرجة معها دول مجلس التعاون الخليجي، متورطة في حرب لا تنتهي مع شعب مهنته القتال وبينه وبين مملكة الشمال تاريخ من الحروب لم تنته مرة بانتصار حاسم بل غالباً ما انتهت بتسوية مذهّبة مع الأخ المشاغب والفقير، قد تنجح في فرض هدنة، ولكنها لا تحسم الصراع الذي سيظلّ مفتوحاً حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

أما لبنان فلم يكن في حال خصومة مع المملكة، بل إنها كانت شريكة في إنتاج الصيغة الحالية للحكم فيه، من قبل صياغة اتفاق الطائف الذي تمّ برعايتها المباشرة إضافة إلى سوريا (وتحت المظلة الأميركية، بطبيعة الحال)..

وكان في لبنان دائماً قوى سياسية توالي الرياض، كما كان فيه من يناصبُها العداء، سواء لأسباب فكرية ـ حزبية أو لأسباب داخلية تتصل بتكوين السلطة على قاعدة اتفاق الطائف الذي رأت فيه بعض القوى السياسية المسيحية انتقاصاً من دور «الشريك المسيحي» في السلطة، بدءاً بصلاحيات رئيس الجمهورية مروراً بتعزيز موقع رئاسة الحكومة وصولاً إلى قانون الانتخاب وهو قاعدة صياغة المجلس النيابي.

على أن ذلك كله لم يتسبّب في إشهار المملكة عداءها للبنان… بل لقد كانت موافقتها معلنة ومستمرة على مشاركة «حزب الله» في السلطة بمختلف مؤسساتها (الحكومة، المجلس النيابي، الإدارة الخ).

ربما لهذا كله يصعب الاقتناع بأن الغضبة السعودية التي تفجّرت مؤخراً ضد لبنان، ممثلاً بحكومته التي للسعودية فيها حصة الأسد (وقد تواضع تأثيرها وإن كان ما زال موجوداً ومحفوظاً عبر التحالف مع قوى سياسية نافذة أبرزها «حزب الله») بسبب من مواقف هذا الحزب منها، او بسبب من مشاركته في القتال إلى جانب النظام في سوريا، وهذا أمر قائم ومعلن منذ ثلاث سنوات أو يزيد وليس جديداً أو مفاجئاً في أي حال، بل إنه يستند، ضمناً إلى انبهار المملكة بدور الحزب في طرد الاحتلال الإسرائيلي من الأرض اللبنانية التي كان يحتلها.. وهو الذي تحوّل إلى اندفاع للمطالبة بإشراك الحزب في الحكم بعد انتصاره المؤزر في الحرب الإسرائيلية على لبنان في العام 2006، وهو ما رأت فيه انتصاراً للعرب جميعاً.

على أن الافتراق السياسي مع الحزب نتج عن اختلاف المنظور إلى الحرب في سوريا وعليها. فقد ذهب الحزب للقتال ضد «داعش» و «النصرة» إسناداً للنظام، في حين كانت السعودية تتخذ موقفاً معاكساً فتدعم بعض منظمات المعارضة بالمال والسلاح والدعم السياسي.. بل إن الرياض هي مَن يتولى، في الحقبة الأخيرة، رعاية هذه المعارضات التي أتعبتها وهي تحاول توحيدها أو دفعها إلى الانخراط في جبهة سياسية موحّدة الشعار والهدف، مع استبعاد «داعش» و«النصرة» وهي هي «القاعدة» عن المواقع القيادية، وهذا ما أربك صفوفها وصياغة البرنامج الذي تذهب على أساسه لمفاوضة النظام، تحت رعاية دولية يعززها بل يجعلها متاحة التوافق الروسي ـ الأميركي الذي بدأ في الجو ثم انحدر نزولاً إلى الأرض وإلى صيغة المرحلة الانتقالية التي تحضَّر الآن كقاعدة للحل العتيد والصعب.

في أي حال، فإن الحكومة العرجاء في لبنان البلا رأس ليست مؤهلة لأن تكون خصماً للمملكة المذهّبة.. ولن تزيدها العقوبات السعودية إلا ضعفاً على ضعف، بل هي ستسيء إلى المملكة، وستظهر أن ملوك السعودية السابقين (من سعود إلى عبدالله مروراً بفيصل وخالد وفهد وعبدالله) كانوا أحرص على لبنان بأبنائه جميعاً كما بدولته المتهالكة من «العهد الجديد».

وليست مقبولة ذريعة «تفرّد» وزير خارجية الحكومة العرجاء بموقف في هذا المؤتمر العربي أو الإسلامي أو ذاك، فكل وزير في هذه الحكومة تفرّد ويتفرّد بموقفه حتى في المسائل التي لا خلاف جدياً حولها، بل كثير ما تفرّد وزير في كتلة سياسية بموقف يُجافي الموقف المعلن لكتلته، ولم يُفسِد ذلك للحكم المعطل قضية… ثم إن هذه الحكومة برئيسها وأكثرية أعضائها تظل أقرب إلى السعودية من أية حكومة سابقة.

كذلك فإن الاستنفار المذهبي أو الطائفي يؤذي المملكة أكثر مما يفيدها ويسيء إلى صورتها كحاضنة لصيغة الحكم العرجاء القائمة فيه والتي قد يكون بديلها الفتنة العمياء التي ستصيب دور السعودية بأضرار جسيمة.

وليس من الحكمة أو من مصلحة المملكة، التي شرَّف الله أرضها بأن تكون مهبط الوحي ودار الإسلام، بأن تصير موضع الاتهام بإثارة الفتنة بين المسلمين، كائنة ما كانت الذرائع… وليست بيروت طهران ليتم الانتقام منها على خطأ إجرائي إيراني تمّ الاعتذار عنه بلسان أعلى مرجعية دينية سياسية في إيران.

أما الصراع السياسي فليبقَ مفتوحاً إلى ما شاء الله.. خصوصاً وأن السعودية كانت من كبار المستفيدين منه، حتى اللحظة، أما في الغد فسيكون مستحيلاً حصره في المجال السياسي… وستكون السعودية مع الغالبية الساحقة من اللبنانيين في موقع المتضرّر وليس المستفيد. ذلك أن الفتنة تؤذي الجميع، الأكبر فالأصغر، ولا يرتجى منها الخير لأي طرف، كما تدرك المملكة، قطعاً، نتيجة معالجتها المتكررة للمعضلة اللبنانية، ونجاحاتها في حفظ صورتها من التشوّه في معظم الأحيان.

رحم الله الرئيس رفيق الحريري الذي عرف كيف يبلور صورة السعودية، كمصدر تعزيز للوحدة الوطنية ودعم لعملية إعادة بناء لبنان، وليس كمسبّب للشقاق والفتنة… لعن الله من أيقظها.