ليس من شكّ بأن مواجهة الانتحاريين الخمسة للجيش اللبنانيّ في مخيم عرسال أظهرت أن هذه البيئة تحتاج إلى أمرين:
– الأمر الأوّل إلى عملية جراحية تطهيريّة لكلّ المخيمات وقد دلّ هذا الحدث بأنّ المخيمات لا تزال قيد الاستهلاك ومدى للاستعمال من قبلهم، وهي جزء من هذا الصراع المكشوف الآن، سيّما أنّ التوق مشدود لسحق تلك المنظمات في جرود عرسال، واستخراج أية بقايا لها في مناطق ملتبسة بها.
– الأمر الثاني بات لزاماً على الحكومة اللبنانيّة وبإقرار عدد كبير من المصادر السياسيّة الاتجاه نحو حلّ جذريّ لأزمة النازحين السوريين بالاتجاه نحو مباحثات جديّة ورصينة مع الحكومة السورية لتأمين انتقال هادئ لهم إلى ديارهم ضمن مسلمات تعنى بها الحكومتان لضمان جذرية العودة ونهائيّتها.
أمام هذا المشهد ترى بعض الأوساط المراقبة، وضمن معلومات واضحة، بأنّ الحوار بين لبنان وسوريا، ليس مصلحة آحاديّة الجانب تختص بسوريا وحدها أو لبنان وحدها، مصلحة الواحد بمعزل عن الآخر، بل هي مصلحة ثنائيّة وجامعة، ملء جوهرها اعتراف سوريّ بكيانيّة لبنان بلا انتقاص، واعتراف لبنانيّ بشرعيّة الرئيس، وبحقّ السوريين باختيار من يشاؤون طالما ثمّة تسليم دوليّ واضح بها.
وعلى الرغم من ذلك فإنّ بعض هذه الأوساط تشكّ في إمكانية الحكومة اللبنانية وقدرتها على التخاطب مع الحكومة السورية، وتعزو ذلك إلى أنّ ثمّة رهاناً عند بعض الأفرقاء على دخول أميركيّ مباشر على خطّ المواجهة في الداخل السوريّ بإمكانه أن يقلب موازين القوى في المنطقة لصالح بناء خريطة جديدة في سوريا تنطلق من تسوية تبتلع النظام في آخر المطاف، ويقرأ هؤلاء بأنّ الضغط سيتكثّف حتماً على حزب الله بماليّته ودوره، لمحاولة التخفيف من وجوده في الدائرة السورية قدر الإمكان، فيسهل عندئذ إضعاف الرئىس بشّار الاسد. فما الفائدة إذاً من حوار مع ورقة تعتبر عند هؤلاء محروقة وغير موجودة، فيعمدون على استغلال وجود النازحين السوريين في لبنان للضغط المعاكس والمساندة في حلّ مختلف عن الحلول المطروحة بنظرة تعيد للكيان السوريّ وحدته ودوره.
هذا الزعم بهدفيته حتمًا مكوّن من مساهمات بعض المستشارين الشخصيين للرئيس الأميركيّ دونالد ترامب، وبعضهم على تواصل مع عدد من السياسيين اللبنانيين المناوئين للنظام السوريّ، وهم أي المستشارون يقومون بتزويدهم بأجواء البيت الأبيض وبالحراك الأميركيّ تجاه سوريا وحزب الله وما يمكن أن يتأتى منه وعنه من تداعيات. تلك المساهمات تقف أمامها مصادر سياسية أخرى وهي خبيرة بالاستراتيجيا الأميركية متساءلة عن قدرة الأميركيين بقلب الطاولة على الأرض السوريّة وفتح مواجهات مع الجيش السوري تمنع تقدّمه نحو الحدود العراقية – السورية وتربط بينها وبين الحدود اللبنانية – السوريّة والحدود الأردنيّة – السوريّة في جوّ روسيّ معترض وضاغط باتجاه إنهاء ملف الإرهاب وعدم رصف حزب الله في مصاف الإرهابيين فهو يقدّم المساهمات الجلى في محاربة القوى الإرهابية بحسب هذه المصادر ومصادر أخرى مقرّبة من الخارجية الروسيّة.
وتذكّر المصادر السياسيّة القوى اللبنانية المراهنة على واقع أميركيّ جديد في سوريا، وانعكاسها على حساباتهم السياسيّة الداخليّة بكلام السفير الأميركيّ السابق في دمشق حينما أشار في معرض كلامه عن الأكراد في سوريا بأن الولايات المتحدة تتعاطى «بقلّة أخلاق»، هذه العبارة غير محصورة بالمسألة الكردية ولا هي ردّة فعل صادرة عن سفير خبر العمل الديبلوماسيّ بكل تجلياته وأبعاده في سوريا، كلامه توصيف دقيق للدور الأميركي في قضايا المنطقة وعناوينها، والإدارة الأميركيّة تتعاطى بالمعايير عينها مع كلّ المجموعات والمكوّنات في سوريا ولبنان والعراق، ومع الخليج العربيّ.
تستند هذه المصادر على تلك الرؤية لتشير بأنّ الأميركيين ووفقاً لتلك المعايير يحاولون جذب عدد من هذه القوى وتحريكها بوجه حزب الله وبوجه سوريا، وهي عينها تمنع من حلّ جذريّ لقضيّة النازحين السوريين بهدف جليّ وواضح وهو استبقاء الفوضى الخلاّقة كما رسمها صاحبها برنارد لويس وهندس لها في الأصل هنري كسينجر وسوقتها في هذه البلاد كوندوليزا رايس وجاء القرار 1559 ترجمة لها أكثر مما هو تجسيد للسيادة اللبنانيّة. وتعتبر تلك المصادر بأنّ حزب الله يملك في حوزته معلومات تشير إلى تلك المحاولات بالاتصالات المباشرة وغير المباشرة. وتذكّر بما قاله رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون حول مسألة النازحين السوريين تفضلوا وأوجدوا الحلّ السياسيّ في سوريا، أمّا استمرار بقائهم فهو استمرار للأزمة السورية والخراب فيها وعليها.
عدم عودة النازحين وفقاً لتلك المقاييس يؤدّي إلى استمرار الأزمة ويعرّض السيادة اللبنانية والأمن كلّه إلى المزيد من الانتهاكات فيظل الوضع اللبنانيّ رهينة الابتزاز الطائفيّ والمذهبيّ، بكل ما يحمل من الاستفزاز المعقّد، ورهينة الابتزاز بل البازار الدوليّ والعربيّ والإقليمي مما يسمح بتوطينهم وترسيخهم في لبنان تحت حجة الخوف من العودة إلى مدنهم وقراهم.
وترى هذه المصادر بأنّ ما حدث أمس في عرسال حاو لهذا الفعل التخريبيّ المتفجر من صراع الأمم وبازاراتهم. وتقول، تالياً، بأن عدداً من أصدقاء لبنان يخشون من استمرار هذا البلد رهينة هذا الملفّ، بكلّ ثقله وعنفه، بكل تراكماته وخلفياته، ويرون بأنّ الأمم المتحدة لا تملك وظيفة الحلّ والربط فيه، فالتجارب معها كمثل رجل يملأ السلال المثقوبة بالمياه، ويذكّر أصدقاء لبنان كيف أنّ الأمم المتحدة غضّت الطرف غير مرّة عن كل اىنتهاكات بحقّ لبنان، وتقاعست أكثر من مرة عن تطبيق القرارات الدوليّة. فالبنك الدوليّ والمنظمات الدوليّة وكلّ من يحاول لبنان طرق بابه من اجل هذا الملفّ لا يملك الحلّ والربط، بل جزء من هذه المنظمات داعمة لعملية بقاء النازحين السوريين على أرض لبنان مثلما دعمت اللجوء الفلسطيني على أرض لبنان. وتذكّر تلك المصادر بأن الحلّ الجذريّ المتوفّر عند الدولة باجهزتها الأمنية تطهير المخيمات وتطهيرها من كلّ سلاح فرديّ وثقيل. لقد أثبت الجيش اللبنانيّ بطولة رائعة في عرسال وسيكون الحافظ للأمن والضابط له منعًا لأي انفلات وانفلاش.
لكن! مهلاا! هذا لا يكفي تضيف المصادر، فبالإزاء مع هذا الأمر الحوار مع الحكومة السورية بات لزامًا وضروريّاً، هذا الحوار هو وحده الكفيل بعودة النازحين وحلّ الأزمة وما خلا ذلك هو استمرار لها واستكمال دخول لبنان في مجهول سحيق.
ما هو موقف رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون؟ مصادر مقرّبة من بعبدا تعتبر بأن الرئيس لم يقف مكتوف اليدين إزاء هذا الوضع، وخلال زيارة وشيكة لدمشق لم يعلن عنها بعد، ولكنّ الرئيس يتجه للقيام بها على رأس وفد محترم، كما زار السعوديّة وقطر ومصر والأردن، فلبنان يملك ثلاثة أرباع الحدود مع سوريا، وبين العائلات هنا وهناك قربى ومصاهرة، وسوريا ولبنان جزء من مدى مشرقيّ افتتحه الرئيس بعد خروج سوريا من لبنان، وجعل المشرقيّة سمة وهوية جامعة بين البلدين وبين المكوّنات كلّها. والهدف الجوهريّ من هذه الزيارة البحث بهذا الملفّ الخطير بعمق كبير وإيجاد الحلول الناجعة له، فالرئيس مدرك بأن الحلّ الأمثل هو الحوار مع سوريا والتواصل معها، وليس بالنأي عنها أو نأيها عنه، ذلك أن مسألة حياد لبنان لا تفترض البتّة الحياد عن معالجة ملفّ واسع مطلّ من جرود عرسال إلى عرسال إلى عكار وصولاً إلى مخيم عين الحلوة حيث فيها سوريون ومنهم إرهابيون. ورئيس الجمهورية يقارب الموضوع بمزيد من العقلانية والتوازن وهو يقوم باتصالاته اللازمة بغية حلّ عادل لهذه المسألة.
متى وجد الحلّ الجذري والعادل في آن، دخل لبنان مرحلة استقرار امني جديّ واستقرار اجتماعيّ اقتصاديّ فعليّ يطلّ بلبنان على نور مضيء.