Site icon IMLebanon

عن مار مارون المتروك وأنطاكيا المهجورة وجلسة 8 شباط

فيما يستعدّ الموارنة للاحتفال غداً بعيد شفيعهم، سيبقى كرسيّ رئيس الجمهوريّة في القدّاس الذي سيُقام في كنيسة مار مارون في بيروت فارغاً للعام الثاني على التوالي، ما يَطرح أسئلةً عدّة عن السبب الحقيقي الذي دفعَ الشعبَ السرياني الماروني المتمسّك بجذوره، إلى خسارة حضوره على رأس جمهوريّة ناضَلَ مِن أجل قيامها.

ما زالت البطريركية السريانيّة المارونية هي بطريركيّة أنطاكيا وسائر المشرق. في الوقت عينه، لربّما ضلَّ موارنةٌ كثُر طريقَ أنطاكيا الروحية، ونسوا جوهرَها.

تلك المظلّة المهيبة لبطريركيةٍ امتدّت من جبال طوروس السورية – الأرمنية – التركية، ومن حدود بلاد فارس إلى صحراء سيناء، وصولاً إلى البحر المتوسط وصعوداً إلى جبل لبنان، من فلسطين المصلوبة مروراً بعاصمة الأمويّين دمشق وبيروت اللبنانية وعمّان الأردنية، وصولاً إلى سائر المشرق.

كانت أنطاكيا قد تَفكَّكَ شملُها، وسار أبناؤها في تيّارات مختلفة، فأعاد مار مارون تشييدَها مجدّداً، بناها على طريقة بولس وبرنابا، وقوَّى أساساتها، وعلى مثال بطرس أسقفِها الأول، فأخذت الانفتاحَ والشمولية عن بولس وبرنابا، والإيمانَ عن بطرس.

يعود ذلك إلى قرون طويلة غارقة في الزمن، قبل أن يحمل قدّيس جديد هو البابا يوحنا بولس الثاني، إلى هذه الأرض بالتحديد ومجدّداً، الإرشادَ الرسالةَ في الاستقرار والعدالة والسلام والمحبّة. وهي رسالة أنطاكيا في ذاتِها، ولذاتها، قبل أن تكونَ رسالةً إلى الشرق والغرب معاً، بل إلى العالمِ أجمع.

ضاعت هذه الأنطاكيا، لم يعُد هناك مَن يَهواها في العقل والروح والتدبير، جميعُهم فرّطوا بالوزنات الكبرى التي سعى إليها مارون والبابا الراحل وإلى جانبهم رجالاتٌ وبطاركة عظام.

الصمتُ الطويل كان رفيقَ حافظِ أسرار بكركي طوال 34 عاماً، المونسنيور ميشال العويط الذي عايَش أصعبَ المراحل وحفظَ أسرارَها، لكنّه قرّر الكلامَ قبل يوم مِن عيد شفيع الطائفة، وقد اختارَ الدردشة مع «الجمهورية» في أوّلَ مرّةٍ يطلّ فيها على الإعلام للإفصاح عن القليل ممّا يدور في بالِه ويُعبِّر عن ألمِه على شعبٍ تحدّى كلَّ شيء ليبنيَ لبنان.

ويسأل العويط: «لماذا يتنكّر أهلُ أنطاكيا لفكرةٍ كيانيّة مشرقة احتضنَت يوماً هذه الأرضَ كلّها، وجَعلَت سماءَها سقفاً للحضور المادّي والمعنوي للمسيحيين المشرقيين، إلى جانب رسالةِ الشعب الذي حقّقَ التلاقي بين إرثِ الديانات السماوية، وبين قيَم التجديد والانفتاح والحداثة؟».

هذا السؤال الكبير، هو الذي يجد الموارنة أنفسُهم معنيّين بالإجابة عنه، وبوضوحٍ لا لبسَ فيه، ولا إبهام. فلبنان الفكرة، كما الشرق برُمَّته معنيّ بهذه الإجابة، المسيحيون والمسلِمون، فالجميعُ في صميم ألمِ الجلجلة، والجميع مدعوّ إلى تقديم البراهين التي تؤكّد ثباتَهم على القيَم التي رافقَت مسيرتَهم الشاقة في هذا الشرق.

إلّا أنّ الموارنة دونَ سواهم، يواجهون ربّما التحدّيَ الأشد خطورةً في تاريخهم كشعبٍ، وفي تاريخ الجماعات المسيحية المشرقية على السواء. إنه تحدّي الوجود، فكيف يواجهونه؟

اليوم 8 شباط، مِن المفترض أن يتوجّه نوّاب الأمّة إلى البرلمان لانتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية، هو الرئيس المسيحي الماروني الوحيد في الشرق. بعض نوّاب الأمّة سيَحضرون، لكنْ لن تختلفَ الجلسة عن سابقاتها الـ 34، ولن يكون القدّاس الرسميّ في عيد مار مارون في 9 شباط مكتملَ النصاب رئاسياً، فلا رئيس منتخباً يحضره، إلى جانب رئيسَي المجلس النيابي والحكومة أو مَن يمثّلهما.

وطبعاً، لا أحد يَنتظر الإجابة عن هذا السؤال الكبير في هكذا مناسبات. رغم ذلك، يرى العويط أنّ «المعادلة المارونية بسيطةٌ للغاية، لكنّها في الآن نفسِه جوهريةٌ وخطيرةٌ للغاية».

ويضيف العويط الذي لم يُصرّح يوماً علناً، بل اكتفى بالكتابة المكثّفة عن الوجدان الماروني في دردشتِه مع «الجمهورية»: «أنْ يستعيدَ الموارنة خطى مارون، فيَهتدوا بها، ويَقتفوا أثرَ تلامذته ورسُلِه وشهودِه وشهدائه هو الجواب. ليس مِن دورٍ لهم في لبنان، وفي الشرق، وفي العالم، خارجَ هذا الدور، ولا خلاصَ لهم إلّا به.

كلُّ خروجٍ على هذا الدور، يَجعلهم في ظلمةِ العالم ويَرميهم في المنزَلقات الخطيرة، وشهادتي أنّ الكثيرين منهم نَكثوا بالعهود. لهذا هم يتخبّطون الآن في ظلمةٍ دامسة، وفي منزلقاتٍ خطيرة، لقد أعمت الكثيرين منهم أمجادُ الدنيا، فغَفلوا عن معنى الرسالة والشهادة، تناسى الكثيرون منهم أنّه لا يمكنهم أن يَعبدوا ربَّين، فوقَعوا في الخطر الوجودي الكبير، لقد شتَّتتهُم الدسائس والمحَن، وضربَتهم الشدائد، وأغوَتهم شياطين الثروات والكراسي والمناصب والأمجاد. فاندفَعوا وراء صغائر الدنيا، متنكّرين لحقيقتهم كموارنة، ولرسالتهم كشعب».

ويختم: «ليست قليلةً تلك الإجابة المؤلمة التي تُجسّد الإرادة في أن يكونوا أنطاكيّين فعلاً لا قولاً: «عليهم أن يَشتركوا في الثورة على ذواتهم، وعلى كراسيهم، وعلى مؤسّساتهم، وعلى واقعِهم الديني، والسياسي، والمجتمعي، وأن يُعلنوا العودةَ إلى الينابيع، إلى وادي القدّيسين، ليستعيدوا كرامة قدّيسهم مارون، المتروك وحيداً في عتمةِ العالم البرّانية».