فضحتنا هذه «الدولة ـ الوهم» بشعارها الإسلامي المزوّر و «خليفتها» الآتي من الماضي، فكادت تلوي عنق مستقبلنا نحو المجهول وهي تصادر الحاضر في قلب عجزنا عن مواجهتها، ثقافياً وفكرياً واجتماعياً، قبل العسكر والميليشيات التي تحولت ـ بطائفيتها ومذهبيتها ـ إلى مصدر دعم لهذا التنظيم الآتي من الجاهلية، مزوّداً بأحدث منتجات العقل البشري في مجال التواصل الاجتماعي وأدوات تعميم الخوف لفرض الاستسلام لهذا «القدر» طلباً للسلامة.
فضحتنا في أنظمتنا الشديدة على شعوبها، الهاربة من ميدان المواجهة مع أعداء الأمة في حاضرها وفي غدها إلى التسليم بشروطهم التي تذهب بالسيادة والكرامة والاستقلال، والتي تهدر ـ وهذا هو الأخطر ـ كرامة الدين فضلاً عن حق الإنسان (المواطن!) في حياة كريمة.
فضحتنا في واقع مجتمعاتنا التي تكشف تخلفها وتمزقها وترديها في وهدة الخوف من الحاضر بذريعة الحرص على المستقبل الذي يكشف عجزنا عن محاولة صياغته بما يحفظ كرامتنا الإنسانية.
فضحتنا في عجزنا عن الثورة، لنقص إيماننا بأنفسنا وبقدرتنا على الفعل.. هذا العجز الذي ذهب بانتفاضات «الميدان» إلى التيه لافتقادها القيادة المؤهلة والبرنامج الثوري لإعادة صياغة الحياة، والقادر على تحويل هدير الملايين في الشوارع إلى قوة فاعلة تحمي المسيرة إلى التغيير من المصادرة بالمزايدة التي تطرح الانقلاب الشامل والفوري حيث لا بدائل جاهزة: فلا قائد يفرضه الإجماع ولا قيادة تقدمها «النخب» ولا «جبهة» يتلاقى فيها المختلفون في الأسلوب المتفقون نظرياً على الهدف، حتى إذا صار الهدف في متناول اليد تضاربت الأيدي وتشابكت في صراع عبثي، وعاد الجميع إلى دوامة الضياع حول تحديد الأولويات.
فضحتنا في جهلنا للسياسة لانقطاعنا القسري عن ممارستها في حياتنا اليومية بدافع الخوف أو الانتهازية ومداراة السلطان… ومن مارسها بالممالأة خسر قضيته وخسر مع براءته أسباب قوته، فالمساومة مع السلطان تذهب بالبراءة والتطهر، مغلّبة الانتهازية التي تفتك بالثورة وحلم التغيير.
والثورة علم وتنظيم وتصميم وصبر عظيم وخطة للتحرك تحدد متى تتقدم وأين وإلى أي مدى، ومتى تتراجع تكتيكياً لتحمي مسيرتك ولو بطّأت خطاك من دون أن تضيع منك الطريق أو يضيع الهدف، فتراوح مكانك بينما يستمد النظام من مراوحتك قوة، فيغادر موقع الدفاع ويهاجمك بشعاراتك فيقتلك بأخطر أسلحتك لإسقاطه.
لقد فضح «الميدان» تهاوي الأنظمة، ولكنه كشف بالمقابل النقص الفاضح عند معارضاته، ممثلاً في فرقتها ثم في غياب القيادة المؤهلة ومشروع التغيير الثوري عبر برنامج مدروس محددة مراحله ومقتضياتها التكتيكية.
بديهي أن «الميدان» لم يكن مهيأ ومستعداً للمواجهة مع مشروع مضاد كالذي يحمله «داعش»، خصوصاً أنه لم يكن بكامل الاستعداد لمرحلة ما بعد إسقاط النظام. من هنا فإن جهده قد تركز على محاولة استيعاب التداعيات المنطقية «للسقوط المنظم» للنظام، الذي لم يمنع الميدان من الاحتفال فرحاً بالإنجاز، لكنه ـ بالمقابل ـ كشف عدم جاهزيته لأن يتقدم إلى مركز القرار برموزه القيادية معززين ببرنامجه للتغيير.
ربما لأن النظام في تونس، ثم في مصر، قد سقط من دون قتال، وفي زمن قصير نسبياً، قد حرم «الميدان» من التقدم إلى الإمساك بالسلطة معلناً: «الأمر لي!.. وهذا هو برنامجي»، إلا ان الطبيعة ترفض الفراغ، وهكذا تقدم التنظيم الأقوى ـ نسبياً ـ في تونس إلى الانتخابات، فلما أكدت تفوقه على باقي فصائل المعارضة، اندفع «الإخوان المسلمون» إلى التفرد معتبرين أن موعدهم مع القدر قد حان. لكنهم سرعان ما فوجئوا وبعد وقت قصير أن «الميدان» لا يقبلهم قائداً مفرداً، فتراجعوا بسرعة معلنين التسليم بما تقرره اللعبة الانتخابية. على ان وقتاً ثميناً قد ضاع عبر هذه المناورة، مما وسع هامش الحركة امام «داعش» فوجه ضربات عدة، وفي مواقع حساسة، مما زاد من انكشاف أسطورة شعبية التيار الإسلامي المعتدل ممثلاً بـ «إخوان» تونس الذين تميّزت قيادتهم بأنها قد أفادت من تجربة أقرانها «إخوان» تركيا الذين قدموا نموذجاً لنجاح الفكر الإسلامي المعتدل لكي يقبله الغرب، في قيادة السلطة.
ولعل تجربة «إخوان» تونس في القفز إلى السلطة عبر جبهة أقيمت على عجل وفي آخر لحظة، قد شجعت «الإخوان» في مصر على ارتكاب جريمة التفرد بالسلطة فكانت النتائج كارثية، إذ استفزوا الميدان الذي استعاد روحه للحظة، فحسم أمر إسقاطهم لكنه لم يكن في وارد تشكيل البديل، فكان ان تقدم «التنظيم» الوحيد المتماسك والمنضبط والقادر على الإمساك بالأمور، الجيش، إلى سدة الرئاسة فتولاها، تاركاً «الميدان» في قلب المفاجأة: لا هو يستطيع ان يرفض الأمر الواقع، ولا هو يستطيع التسليم بأن دوره قد انتهى وعلى جماهيره الانصراف إلى حيث كانوا قبل تلبيتهم نداء الثورة للتلاقي فيه.
ولأن مناخ «الإسلاميين» في تونس، لا سيما تنظيماتهم وتشكيلاتهم السرية المعترضة على «مدنية» «الإخوان» و «غربيتهم»، كان أكثر تطرفاً منه لدى «إسلاميي مصر»، خارج دائرة «الإخوان المسلمين»، فقد اندفع هؤلاء نحو «داعش» باعتبارها الطريق إلى المستقبل. وهكذا انتبه العالم إلى واقع ان مئات من شباب تونس قد التحقوا بـ «داعش» واندفعوا يقاتلون تحت رايته في سوريا، أساساً، كما في العراق.
وكان منطقياً أن يستعيد «العهد البورقيبي» في تونس اعتباره، بعد النكستين اللتين مني بهما الإسلاميون: فالمعتدلون لم يثبتوا جدارتهم بالقيادة فهزمتهم الديموقراطية التي اعتبروا التزامهم بها صك براءة من تهمة التطرف، أما المتطرفون فلم يتورعوا عن ارتكاب المجازر في تونس ذاتها، وأن يتسببوا في تدمير الصورة البهية للانتفاضة العربية الأولى ضد الطغيان التي حفرها في الوجدان صوت محمد البوعزيزي، وهو يطلق صرخته عبر إحراق نفسه لإشعال نار الغضب في بلدته بل في تونس والأمة جميعاً.
ومؤكدٌ أن عودة البورقيبية إلى تونس ستشكل هزيمة للحكم الإسلامي المعتدل الذي باشر تقديمه من دون نجاح يذكر «الإخوان» مما سيزكّي جنوح الإسلاميين نحو مزيد من التطرف في أحضان «الدولة الإسلامية في العراق والشام» وخليفتها «الإمام» البغدادي.
فضحتنا «داعش»!
لم يفضح هذا التنظيم الآتي من الجاهلية والآخذ إليها عبر آخر تجليات الهجوم بالشعار الديني في مجتمعات مضروبة بالديكتاتورية والتخلف وتحريم العمل السياسي، غياب الدولة لحساب الحكم بمعنى السلطة بل التفرد بالسلطة، بل هو فضح أساساً ان تلك السلطة في اغلب الدول العربية إن لم يكن في جميعها لم تكن تصدر عن «دولة» أو تؤسس لدولة، بل إنها قد تسببت في إلغاء الدولة جميعاً مكتفية منها بمؤسساتها الأمنية التي تفرّغت لحماية النظام بالأمن المطلق على حساب الدولة والشعارات الواعدة بمستقبل أفضل.
لقد استطاع هذا التنظيم المتوحش ان يفيد من التشوهات التي احدثتها الأنظمة (التي ولد من رحمها) في التاريخ وفي قدسية الأرض، حيث بات النظام أهم من الدولة، والرئيس أهم من النظام، والشعب قطيع يتلهى بترديد الشعارات التي كانت تجسد أحلامه في الحرية والوحدة والاشتراكية.
وهكذا تقدّمت جحافل «داعش» في أرض مفتوحة، بعض أهلها متواطئ معه لأسباب مذهبية ذهبت بولائه للدولة التي انتبه فجأة إلى أنها لم تعد دولته، وبعضهم الآخر يقاتله بشعار من صنف شعاره نفسه، ولكنه «يستعيد» الخلافة للأجدر بها بديلاً من الأقوى.
بديهي إذاً ان تعجز هذه الدول التي ليست دولاً كالتي في مختلف انحاء العالم المتقدم، حيث صندوقة الاقتراع هي الحكم، عن مواجهة «داعش» الذي يحاول فرض «خليفته» بأسباب القوة ذاتها التي يفرض فيها «الحاكم إلى الأبد» نفسه في الأرض العربية، مضفياً على نفسه بعض مواصفات الذات الإلهية.
هل من الضروري الإشارة إلى أن بين من يعيبون على «داعش» انه لم يقاتل العدو الإسرائيلي ولم يشر إليه ولو بحرف في بلاغ قيام خلافته، من قدم في العداء بعض أشقائه العرب على إسرائيل فاندفع يقاتلهم من دون مبرر، كما تدل الحرب على اليمن، أو من ذهب إلى التحالف موضوعياً (ولو من دون إعلان) مع «داعش» ضد أنظمة عربية قد تختلف معه في سياساته المعتمدة.
إن بعض الأنظمة العربية قد تجاوز حالة العداء مع إسرائيل إلى حالة تقارب التحالف معها…
وثمة أنظمة أخرى تبني سياستها الآن وكأن «داعش» حليفها حكماً، ان لم يكن اليوم فغداً، وبالتالي فإن مهادنته شرط حياة.
و «داعش» مرشح لأن يعيش مثل إسرائيل على الصراعات العربية ـ العربية التي تنهك الشعوب وتفرض عليها الاستسلام أمام القوى الغاشمة، سواء تمـــــثلت بالنظام الحاكم أو بالمستعمر حاكم الحاكم، أو بـ «داعش» طالما أثبت انه مؤهل لمواجهة هؤلاء جميعاً!