Site icon IMLebanon

عن أيّام سورياليّة

 

ما زلنا في صيدا. التظاهرة\التجمّع انحصرت في ساحة ايليا، وهي تقاطع رئيسي في المدينة يصل بيروت بالجنوب ومدينة صيدا بضواحيها الشرقية، بعد أن فُتحت باقي الطرقات منذ أيّام ومُنع اغلاقها. وقد كَلّف فتح الطّريق الرئيسي بين صيدا وبيروت، صباح الأربعاء، ضربا مبرحا واعتقالا لعدد من الناشطين هناك (يقول الشهود إن الجيش اللبناني المتواجد دخل في لعبة مراوحة وكرّ وفرّ مع الشباب قبل أن يظهر عميدٌ في مخابرات الجيش، يقود سيارته بنفسه، ويتقدّم «موكباً» من خمس سيارات فيه رجالٌ بثيابٍ مدنيّة، وصلوا الى المكان ونزلوا من سيّاراتهم وحسموا الأمر بسرعة وعنف).

مع مرور الأيّام، قلّت تدريجيّاً نسبة «النّاس العاديين» (عائلات وشباب غير مسيّس من الطبقة الوسطى وطلاب مدارس) الذين حضروا بكثرة في الأيام الأولى وأعطوا الحراك طابعاً خاصّاً ومختلفاً عن التظاهرات الاعتياديّة. عاد الشباب المراهق الفقير ليظهر في مجموعاتٍ في السّاحة وتزداد نسبتهم، ولكنهم يأتون للفرجة وليس من أجل الاحتجاج. نصبت خيمٌ على أطراف المكان، أكثرها لمجموعات سياسية جاءت الى الساحة لتثبت حضورها، وهي «نظّمت» الساحة بشكلٍ سلبيّ، كأنّه «استيلاء» للوجوه التقليدية على المجال العام وتقاسمه، وأمام كلّ خيمة تقف شلّة الناشطين التي تتبع لها (حتى السلفيّين لديهم خيمة يجتمعون فيها، وقد زيّنوها بآيات قرآنية تنهى عن الفساد والسّرقة). «السياسة» في السّاحة، منذ الخميس، أصبحت تدور حول حوادث على شاكلة خلاف بين ناشطي «الديمقراطي الشعبي» وناشطي «اليسار الديمقراطي» حول شعارٍ يمسّ سلاح المقاومة. وهي قليلة ومتباعدة حتى الآن. مكان الاحتجاج، بالمناسبة، محاطٌ بالرموز الرأسمالية: نحن نجلس في ظلّ «مول» ضخم، وأمامه بقليل «مول» آخر، ثلاثة مصارف على الأقل حولنا، ويحدّ الساحة بالضبط قصرٌ من قصور الحريري؛ هو فارغ ولا أعتقد أنهم احتاجوا حتّى لوضع حرسٍ عليه.

إن كانت الرسالة السياسيّة للتجمّع غير واضحة، فإن «المنصّة» والتجهيزات الصوتيّة في المركز قد زادت من انعدام الوضوح: لا يبدو أن همّ من يمسك بالمنصّة توجيه رسائل معينة، أو توحيد الجمهور حول وعيٍ مشترك، بقدر ما هو احياء الحفل. هتافٌ لاسقاط النّظام تتبعه أغنية للجيش اللبناني (وقد أقسم لي أحد الحاضرين بأن أغنية حماسيّة سمعنا مطلعها هي حقيقةً للجيش السوري). في لحظةٍ معيّنة، تحمّس من يمسك بالميكروفون وحاول أن ينشد أغنية لزياد الرّحباني بنفسه، وبصوته الفظيع الناشز، قبل أن تسكته همهمات الانزعاج. في ليلةٍ على الأقلّ، ظهرت مجموعة من المراهقين، جاؤوا سوية ولا يبدو أن لهم علاقة بالسياسة والتظاهر، وهم يحملون طبلاً ودفاً، وينشدون سوية الأغنية التي اشتهرت في بيروت وتشتم جبران باسيل؛ لم يتفاعل معهم أحد وكان مظهرهم نافراً في مشهدٍ عام مسالم و«مهذّب»، ومن الواضح أنهم دفعوا الى السّاحة ليرددوا هذا الشعار بالذات.

أمّا من حيث البنية التحتية والخدمات في السّاحة الصغيرة، فقد حصل تطوّرٌ هائل. تجاوزنا النارجيلة وفنجان القهوة منذ زمن. أصبحت هناك مقاه بطاولات يمكن الجلوس عليها لمن يرغب، تشكيلة مذهلة من الطّعام: شاورما، فلافل، كنافة، أكثر من صاج يخبز المناقيش، سجق، والكعكة الطرابلسية التي تُحشى بالجبن. والأسعار لم تعد «استغلالية»، بل هي تنخفض باستمرار بفعل المنافسة، ويبدو البائعون الفقراء – الذين نصبوا محالهم في الساحة ويسترزقون – أسعد وأنشط من فيها.

 

المعقول واللامعقول في السياسة

سياسيّاً، القوّة الفعليّة للاحتجاجات تتمثّل في قطع الطرقات وفرض الإغلاق، هو ما يعطيها امكانية الضغط وهو «عملتها السياسية»، اضافة الى فورة غضبٍ لم يكن بالإمكان التحكّم بها، ولا تصنع فرقاً بين السياسي والقوى الأمنية وعدّاد الوقوف في الشّارع، بل تعتبرها كلّها رموزاً مكروهة للدولة القمعيّة. ولكن بعد خروج «الفقراء الغاضبين» الذين أشعلوا الاطارات في اليوم الأوّل، وصدور قرارٍ سياسيّ بفتح الطرقات، أصبح قطع المسارب الرئيسية مقتصراً على الأماكن التي تنزل فيها ميليشيات حزبيّة (أو «أنصار منظّمون»، سمّهم ما شئت) ولا تقدر الدولة على تحدّيهم، وتحديداً مجموعات الحزب الجنبلاطي جنوب بيروت و«القوّات اللبنانيّة» شمالها (من هنا وصّف الزميل الأمجد سلامة الوضع على النّحو التالي: بين الجيّة وبشامون، المطلب هو اسقاط جبران باسيل، وبين المتن وشكّا المطلب هو اسقاط الحكومة). أمّا في قلب بيروت، حيث يتركّز الناشطون والمجموعات، فكلٌّ له حلمه ولكلّ ثلّة مشروعها. كنت أعتقد أنّ طرابلس هي المدينة التي تشهد تظاهرات شعبيّة وكبيرة، فأخبرني صديقٌ من الساحة هناك أن التظاهرة فعلاً كبيرة، ولكن ذلك لأن الكلّ نزل اليها: جماعة الحريري تشارك، ميقاتي بالمثل، أشرف ريفي، الخ. فهي اذاً ضدّ من تحديداً؟

 

 

(أ ف ب )

 

بالمعنى النظري، وحسب سير الأمور، فإن رأيي هو أنّ الامكانية الأساسية لتحوّل هذا الحراك الى «مرحلة أعلى» تتمثّل في أن يطول الاقفال والاغلاق، حتّى تنفجر أزمة ماليّة ومعيشيّة خانقة (تهاوٍ لليرة، محلّات وشركات تقفل جماعياً، نقص في الخدمات والمواد الأساسيّة) يدفع بالحشود والنّاس الخائفة الى الخروج للشارع. السؤال الحقيقي حول يوم غدّ لا يتّعلق بالتوافقات السياسيّة والخطط وتنفيذها، بل بما سيحصل حين تفتح المصارف من جديدٍ في نهاية الأمر، وكيف سيكون شكل السّوق يومها. هذه احتمالاتٌ مخيفة، ولكنّها حقيقيّة، ومن السذاجة ألّا تأخذها في الحسبان فيما هي ما يشغل بال أكثر النّاس في البلد: أن ينتقلوا من افقارٍ وأزمةٍ اقتصاديّة الى انهيارٍ اقتصادي وفوضى (هذه السيناريوات بالمناسبة، وحالة «فشل المنظومة»، من الممكن أنّها «مُجَدولة»، أي أنها كانت ستقع علينا في كلّ الأحوال ولكن، في السياق الحالي، سيتمّ اتهام التظاهرات من غير ريب بتسبيبه أو «التسريع به»). المشهد المسالم والاحتفالي في صيدا وغيرها قد يتحوّل بسهولة الى شيءٍ مختلف تماماً.

على سيرة السذاجة وافتراض احتمالاتٍ غير واقعيّة، حين يدخل بعض الناشطين المتحمّسين في حالة «فانتازيا» ثوريّة فأنا أفضّل ألّا أكلمهم وأن تنتظر الواقع ليصطدم بهم. على سبيل المثال، إن كنت تنطلق من مسلّمة أنّ مليوني انسان، أو مليوناً، أو نصف مليون، قد نزلوا الى الشوارع في لبنان فمن الطّبيعي ألّا تقبل بغير تسمية «ثورة»، على الأقلّ، وأن تطالب بحكم البلاد وتوجّه أوامرك الى الشّعب. كنت مكانك سأفعل الأمر ذاته. الاختلاف هنا بيننا ليس ايديولوجيّاً أو حول الأولويّات، بل في أنّك – ببساطة – تعيش في عالمٍ غير ذاك الذي أعيش فيه. انت لا تحتاج لأن تأخذ صفّاً في الاحصاء حتّى تعرف الفارق بين خمسة آلاف ومليون، وهناك وسائل علميّة لتقدير الحشود. الأساس هو أن هناك مبالغات و«كذبات» قد تكون «مفيدة»، كأن تسبغ شرعية وأكثريّة على حركةٍ هي أصلاً قويّة وكاسحة، ولكن أكثر الكذبات تؤذي – وبخاصّة إن صدّقتها.

هنا، لا يلام الانسان العادي وغير المطّلع حين يصدّق هذه الأخبار، وهذه الأمور لا يمكن أن تقدّرها بالنظر، ولكن من المذهل أن يقوم صحافي أو مثقّف أو ناشط عريق بترداد مثل هذه الأرقام، ليس لأنه يكرّر أخباراً مختلقة ومن «مصادر زائفة»، بل لأنه يستعرض جهلاً فاضحاً بمجتمعه – الذي يريد قيادته وتغييره. المسألة هي أنّنا قد مررنا بهذا النقاش من قبل، أيّام «المليونيات» عام 2005، وجاء الخبراء وشرحوا لنا كيف أنّه في لبنان وبيروت، من المستحيل احصائياً أن ينزل مليون أو نصف مليون انسان الى الشّارع، وأن تظاهرةً من عشرين ألفاً في مدينةٍ بحجم بيروت تعدّ تظاهرة هائلة (حتّى تفهموا الفارق بين ما يتمّ زعمه وبين ما هو ممكن منطقياً، خذوا «الميدان الوطني» في واشنطن مقياساً. مساحة الميدان تفوق بقليل كامل مساحة وسط بيروت، من غير منطقة الرّدم، أبنيةً وشوارع وساحات وأسواقا، وهو يمكنه أن يستوعب – ان منحت كلّ انسانٍ 2.5 قدم مربّعة، أي حشرتهم كالسردين – مليوناً و48 ألف متظاهر، بحسب دراسةٍ لسوسيولوجيين أميركيين. وهذا العدد لا يمكن أن يتحقّق الا لو وقف الجمهور كلّه في سكونٍ كامل).

 

 

(أ ف ب )

 

لا أتوقّع أن تخرج من السّاحات – خاصّة بيروت – «ديناميّة ثوريّة»، تصنع سلطات وتفرض نظاماً جديداً، وواقع الأحداث على الأرض يختلف عن صورة التلفزيون أو حروب وسائل التواصل. ولكنّني أتوقّع سباقاً ثلاثيّاً في الفترة القادمة بين النّاس والقوى التي في الشارع وتريد اسقاط الحكومة، وبين أركان النّظام الذين يريدون العودة الى «الحالة الطبيعية»، وبين الأزمة التي تدنو منّا باضطراد ولا تنتظر أحدا. ومن غير المرجّح أن نصل الى انتخاباتٍ جديدة يجري فيها اختبار الأحجام وتوليد مجلس نيابي يقود المرحلة القادمة. أمّا بالنسبة الى حزب الله، فسيكون من السّهل الهجوم عليه في هذه المرحلة، اذ يتمّ وضعه أمام «الخيار المستحيل»: امّا أن تهدم النّظام بنفسك أو تتركه ينهار أو تخوض حرباً ضدّ أركانه لا أحد يعرف منتهاها، أو انت رأس الفساد والمسؤول عن الفشل (في موضوعٍ متعلّق: ما لا يفهمه الكثير مّمن يتحدّث عن حزب الله، حتّى في الدّاخل اللبناني، هو أنّ الحزب ليس جيشاً فحسب، ولا هو مقاومة فقط بل هو، قبل ذلك كلّه، أكبر حركة اجتماعية في تاريخ لبنان، وإن كانت ستحصل «ثورة» فمن المستحيل أن تكون عليه أو من دونه).

 

«التظاهر النرجسي»

ليلة الخميس، قال أحد المتجمّعين في صيدا لمن حوله مازحاً في لحظة تشاؤم: كان من الممكن أن تخرجوا من هذه الانتفاضة بتشريعٍ للحشيشة: مكسب متواضع ولكنّه مادّي وحقيقي، وكانوا سيعطونكم اياه في لحظةٍ في البداية حين كانوا خائفين. الآن سنخرج بأننا شتمنا جبران باسيل؛ وهناك بالطّبع من يعتبر شتم باسيل هدفاً كافياً ويستحقّ، وهنا تبدأ المشكلة. لا يضيرني أن يُشتم باسيل وليس عندي سبب لكي أتعاطف معه، الفكرة هي أنّ لا أحد من الناس حولي في جنوب لبنان يعتبر أن جبران باسيل هو سبب فقره ومشاكله، والعائق أمام أن يسترجع وطنه. هذه قناعات أناسٍ مسيّسين وهي تأتي من قلب قاموس السياسة اللبنانية اليومي، وتحويل شتم باسيل الى «أنشودة الحراك» لن يجذب اليه من يشعر حقّاً بالحرمان وتنقصه أساسيات حقيقيّة: الصحّة، الطّعام، المسكن. ومن دون هذا الفقير الى جانبك وأمامك، انت لن تقوم بثورة.

حاولت أن أشرح هذه العمليّة لأحد الأصدقاء، أو ما اسمّيه «نرجسية التظاهر»، عبر التّشبيه التالي: مذهب التّاو الصّيني يعلّمنا أنّ علينا أن «ننتشر» ونسعى الى التوحّد مع الكون والانسانية، وهذا يحصل عبر التّماهي مع غيرك من النّاس، والخروج من تجربتك الفرديّة والطبقيّة والمعزولة. الهدف في العادة هو في أن تتماهى مع من هو أفقر منك، وأضعف منك، ولا يقدر على التّعبير والفعل مثلك، وهكذا تصبح انساناً أفضل وتصنع التحاماً بين الناس يتجاوز هويّتهم وفرديتهم وطبقتهم. أشعر أن متظاهري الطبقة الوسطى في بيروت، حين ينزلون الى الساحات، يفعلون العكس تماماً، أي يستخدمون المنبر لنشر أفكارهم هم وجمالياتهم هم وشعاراتهم التي يحملونها أصلاً، ويصنعون بسرعة مجموعاتٍ على مواقع التواصل ويشبعوننا بالاعلانات المدفوعة. قلّةٌ هي من تفكّر بأن تذهب الى الفقير الذي افتتح السّاحة لها لتسأله عن وجعه وتحوّله الى وجعها هي، وأن تفهم منه قضيته وتجعله قضيّتها، وأن تقف الى جانبه ليكون وقوداً للحركة. وهم، حين ينزلون بشعاراتهم وشللهم، لا يعتبرون أنّ في ذلك مصادرة أو طبقيّة أو فوقيّة، لأنّهم يعتبرون أن مثلهم هذه هي موضوعياً «الصح» (وهنا تحديداً النرجسيّة)، ولا يمكن أن تحتاج الى مراجعة أو تعديل أو اضافة. وكمّ الذاتيّة والأجندات التي رأيناها في الأيام الماضية، معطوفةً على رعاية الاعلام الفاسد، تكفي لكبح خمسة حراكات شعبيّة أصيلة (حتّى أعطي مثالاً مادّياً، هناك مجموعة صغيرة نخبوية في بيروت، من عشرة او خمسة عشر شخصاً، تذهب الى كلّ تجمّعٍ حاملةً «ميغافون» لتصدح بأناشيد بذيئة؛ هذه قد يعتبرها البعض «كسراً للتابو» وتعبيراً ما بعد حداثياً عن السياسة، ولكنّه منفّر ويبعد النّاس العاديّين).

قلّت تدريجيّاً نسبة «النّاس العاديين» الذين حضروا بكثرة في الأيام الأولى وأعطوا الحراك طابعاً خاصّاً ومختلفاً

 

الأيّام القادمة في لبنان ستكون تاريخيّة، كلّ «الشعب» اللبناني يتكلّم، ولكن كلُّ في مكانٍ مختلف. ستولد اصطفافات جديدة وقد يتغيّر طابع السّاحات مجدّداً؛ وهذا يجري فيما نحن نترنّح جميعاً على حافّة الكارثة. في مقابل هذا كلّه، فإنّ العرض الوحيد الذي يقدّمه النّظام هو أن يضعنا على الطريق الذي هندسته المنظمات الدوليّة، وأن تصبح المصارف المموّل الرسمي للحكومة اللبنانية عبر «عطايا» نقديّة مباشرة (على طريقة بعض العائلات المصرفية الاوروبية في القرون الوسطى). وخلف هذا المشهد هناك التقسيمة القديمة الأزليّة تعود في لبنان لتظهر بشكلٍ أعنف: بين من «ربح» واستفاد وراكم في السنوات الماضية، وهو يبحث اليوم عن وسيلةٍ ومهلة لتخليص أملاكه وأصوله واخراجها من البلد، وبين «من هو تحت»، وقد عانى ما عاناه في السنوات الماضية، وهو على وشك أن يدفّع الثّمن غالياً من جديد.