بوتيرة سريعة تتراكم السلبيات، كان يفترض أن يشكل تأليف الحكومة تتويجاً للرغبات التي أبديت من قبل الاطراف السياسية غداة الانتخابات النيابية، بسلوك مسار توافقي يوصِل الى حكومة وحدة وطنية تأتي برداً وسلاماً على البلد.
هذا التراكم، صاغ سؤالاً على ألسنة كل الناس: من يخرّب البلد؟ .. والأكيد انه لن يجد من يجيب.
فجأة تغيّر المسار، وأخذ خطاً متعرّجاً، زاد التواءً وتعرّجاً بـ«حكمة» المتصارعين على حلبة الحقائب والحصص والأحجام، ونُسفت ما كانت تعتبر جسور العبور الى التوافق حتى ولو كان مصطنعاً، وحُبس البلد كله داخل حقيبة وزارية، وتَفشّت من حولها الروائح الكريهة وبُثّت سموم التصعيد والتحريض السياسي والتجييش الطائفي والمذهبي، وفتحت باب الاحتمالات السلبية على مصراعيه.
صورة البلد مخيفة؛ ديوك السياسة تتصارع وتصيح على ناصيتها، مختلفون على جنس الملائكة وطوائفها، أطاحوا الحكومة ولا أمل بإنعاشها، لا الآن ولا في المدى المنظور ولا حتى في المستقبل، وكل البلد مرمي في سلة حلول فارغة، والعالم كله لم يعد يفهم على اللبنانيين، يقول: شَكّلوا حكومتكم حتى ولو كانت مجرّد هيكل، ولم يخطىء هذا العالم عندما يقول:
«أنتم المشكلة»، خصوصاً عندما يرى «الطّرَش السياسي» يعمّ الارجاء اللبنانية؛ المخاطر أكبر من ان تقدّر، والانهيار صار شاملاً كل القطاعات، والاقتصاد يهوي نزولاً، والخزينة العامة مُعتلّة، وتتوجّب عليها التزامات مالية هائلة وبالمليارات في بداية السنة المقبلة، ومؤتمر «سيدر» امام اختبار جديد في لندن الشهر المقبل، وأيّ نتائج سيحققها لبنان من هذا المؤتمر في ظل فراغ حكومي، بالتأكيد لن يملأه حضور الرئيس المكلف سعد الحريري، وبالتأكيد لن يستطيع أن يجيب عن الاسئلة التي ستطرح عليه من قبل المشاركين في هذا المؤتمر: أين حكومتكم؟
وزير خارجية الفاتيكان، دقّ أخطر جرس قبل ايام، قال صراحة: «أيها اللبنانيون انتبهوا الى بلدكم، الخطر مُحدق بكم، يريدون ان يبقوا النازحين السوريين في بلدكم»… لكنّ رنين هذا الجرس اصطدم بـ«الطرش السياسي».
من حق الوزير البابوي، كما غيره من المستويات السياسية او الديبلوماسية الغربية، ان يستغرب انّ أحداً من «هؤلاء الطرشان» في الدولة، لم يتحرّك ولو من باب الاستفسار. ومن حقهم ان يعبّروا عن أسفهم ، وتحسّرهم على لبنان المحكوم بطبقة سياسية لا تسمع بل ترى أبعد من أنفها، فقط مصالحها فوق كل اعتبار، وبفضلها يدخل البلد في كل فترة في محاور متواجهة واصفاف سياسي ومذهبي خطير، كما هو عليه الحال في هذه الفترة. حيث تحوم علامات استفهام حول ما هو حاصل اليوم من حملات وتهجمات تُثار شبهات حول اهدافها، وكذلك حول الموحي بها. ومن هجومات سياسية أعادت استحضار لغة الشارع ومخاطره واحتمالاته التي قد يصعب ضبطها واحتواؤها في المستقبل.
من الطبيعي في ظل هذه الصورة، افتراض انها مقفلة بالكامل، وانعدام الأمل في إيجاد مفتاحها نحو الحلول، يعزّز الخشية من ان يصل البلد الى «الأعظم المخبّأ»، وأن يجد نفسه وحيداً ويده الحكومية مقطوعة، لا قدرة لها على مواجهة اي تطوّر قد يطرأ، فيما العالم كله منهمك بترتيب شؤونه وأولوياته.
هذا التحذير، استخلصه مرجع سياسي مما يسمعه من بعض السفراء، الذين رَسمَ بعضهم صورة قلقة على الخريطة العالمية التي تتزايد فيها التوترات بشكل غير مسبوق وتتداخل فيها السياسة بالاقتصاد وصولاً الى الأمن والعسكر. بما جعلها تمر حالياً في مرحلة بالغة التعقيد، لا يمكن من خلالها تجاهل ما قد تحويه من تحولات ومتغيّرات ورياح هادرة على أكثر من مساحة جغرافية وسياسية على مستوى العالم.
في هذه الخريطة يصعب تحديد مسار الأمور، والخطير فيها، وفقاً لكلام السفراء، هو انّ بعض جوانبها الاساسية قابلة للاشتعال في اي لحظة، وبعض جوانبها المشتعلة أصلاً مهددة بمزيد من الاشتعال، والأمثلة متعددة من بريطانيا والازمة مع الاتحاد الاوروبي، الى فرنسا والشغب والتحركات المقلقة وغير المسبوقة التي شهدتها باريس، الى المحور الروسي الصيني الذي يزداد ترسّخاً يوماً بعد يوم، ومعه إيران وحلفائها، الى المحور الأميركي الأوروبي الذي يزداد انشقاقاً. الى الشرق الاوسط الذي يتقلب على نار مشتعلة من اليمن التي عادت ناره الى الاحتدام، الى سوريا المهددة بتعمق المأزق فيها أكثر، الى إعادة إحياء الخطر الارهابي في العديد من الدول.
والأخطر انّ هذه النار تهدد بالتمدد الى دول كانت بمنأى عن الاشتعال، وعلى لبنان ان يكون في مقدمة اليَقظين.
وكما لا يقلل السفراء من الدور الايراني في المنطقة، مقابل ضمور دور دول معادية لها في المنطقة، فإنهم يتوقفون عند ثلاثة أمور:
الأول: اسرائيل، إذ يجب الّا يتم تجاهل انها تمر حالياً في أحلى لحظاتها العربية. ولهذا الامر تبعاته وارتدادته اللاحقة على مستوى المنطقة.
الثاني: التصعيد في بحر آزوف بين روسيا واوكرانيا، الذي يأتي في لحظة شديدة الحساسية، فهذا التصعيد يؤسس لسلبيات خطيرة، ليس أقلها وضع واشنطن وموسكو على خَطّي اشتباك سياسي بينهما ينعكس على الكثير من نقاط العالم من الغرب الى الشرق. ومن هنا ينبغي رصد الساحتين السورية والايرانية، حيث لا يخفى الهدف الاميركي الواضح بإرباك الروس، ولعل نُذر هذا التشويش أطلّت بدخول اسرائيل على خطه، من خلال الترويج لمعلومات بشأن مبادرة روسية تقضي بتخفيف العقوبات الدولية عن إيران في مقابل سحب القوات الأميركية من سوريا، وهو ما نَفته روسيا بشكل واضح.
الثالث: الخليج. حيث السعي الاميركي الأكيد وقبل أي شيء آخر، الى كبح الاندفاعة الروسية باتجاه باقي الأطراف الفاعلة والمؤثرة في الشرق الأوسط، وعلى وجه الخصوص السعودية، التي يستعد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لزيارتها.
بناء على كلام السفراء، يقول المرجع السياسي: واضح انّ العالم في معظمه أمام مرحلة مفصلية لن تتأخر ملامحها في الظهور على الساحتين الدولية والاقليمية، وليس في الامكان تحديد حجم الارتدادات ونطاقها السياسي والجغرافي.
العالم بالتأكيد يعدّ عدّته لمواجهة هذه المرحلة، أمّا نحن في لبنان فمع الأسف، لا نَعي ما يجري من حولنا، فقط نحن منهمكون في التهريج الأسود داخل سيرك حكومي تافه ومُمل.