IMLebanon

لهذه الأسباب يُصرّ برّي على جلسة و«بمَن حضر»

مهما ارتفعت الأصوات والاعتراضات، فالجلسة التشريعية ستنعقد، و«بمَن حضَر» سياسياً وميثاقياً. فهناك «كلمة سرّ» دولية حازمة للبنان: أنتم في الخط الأحمر، وسنبدأ بسحب أيدينا إذا لم تبادروا إلى التشريع!

في الاجتماع الأخير لحاكم المصرف المركزي الدكتور رياض سلامة وجمعية المصارف، الأسبوع الفائت، جرت مناقشة مجموعة نقاط طارئة، تحرَّكت الجمعية على أثرها في جولة اتصالات ومشاورات على السياسيين، محذِّرة من مغبّة استمرار التعطيل في مؤسستين: المجلس النيابي ومجلس الوزراء.

لقد ناقش الاجتماع التحذيرات التي وجّهها البنك الدولي إلى لبنان من مغبّة إهمال التشريعات الضرورية لإقرار بعض القروض. وكان البنك أمهل الدولة اللبنانية بضعة أشهر، أيْ حتى نهاية العام، وهو لن يمدِّد المهلة إلى مدى أطول. وهذه المسألة تهمُّ المرجعيات اللبنانية كثيراً، لكنها ليست هي الطارئة التي جرت مناقشتها على الطاولة.

الطارئ فعلاً هو عملية جسّ النبض التي يقوم بها ممثلون أوفدهم البنك الدولي، وأجروا اتصالات مع السلطات اللبنانية والمؤسسات المصرفية لوضعهما في أجواء أشدّ خطراً، وفحواها ضرورة إقرار التشريعات المتعلّقة بالشفافية وتبييض الأموال والتزوير ومكافحة الإرهاب.

فالسلطات اللبنانية تباطأت كثيراً في التجاوب على هذا الصعيد. ووجَّه البنك الدولي تحذيرات متكرِّرة إلى لبنان من مغبّة التعاطي باستخفاف في ملفّ الشفافية. ويبدو أنّ تشديد المجتمع الدولي تدابيره في ملف الإرهاب، في ظلّ الحرب السورية وتداعياتها خصوصاً، بدأ يضيِّق الهامش على لبنان. ولكي يتمّ إقرار العديد من الخطوات التي يطلبها المجتمع الدولي، هناك حاجة إلى انعقاد المجلس النيابي، ولكن أيضاً لمجلس الوزراء.

وعدم إقرار التشريعات المتعلقة بالشفافية والتبييض والإرهاب سيؤدّي إلى ضرب صورة لبنان المالية. وترتبط هذه المسألة بالحراك الذي تجريه وكالات التصنيف الدولية التي تلوِّح بخفض التصنيف السيادي.

فإذا قام البنك الدولي بوضع لبنان على لائحة الدول غير المتعاونة في ملف الشفافية والإرهاب، فإنّ حركة انتقال الأموال بين لبنان والخارج ستصبح صعبة، بما في ذلك أموال المغتربين. وعندئذٍ سيعاني القطاع المصرفي اللبناني أزمة غير مسبوقة. ومن المحتم أن يخفَّض تصنيف لبنان، علماً أنّ القطاع المصرفي هو الوحيد الذي ما زال يشهد ازدهاراً ويدعم القطاعات المتعثّرة.

وفي شباط المقبل، سيشارك لبنان في مؤتمر دولي يُفترض أن يقترح مخارج جديدة في دعم الدول التي يتدفّق عليها النازحون، وهو استكمال لمؤتمر ليما الذي انعقد قبل نحو شهر. ولا يمكن أن يواجه لبنان هذا المؤتمر- وهو الرازح تحت أعباء النزوح- فيما المجتمع الدولي يعاقبه بتهمة التساهل في ملف الإرهاب.

وهذه الأجواء تضغط على الرئيسَين بري وتمام سلام لتحريك مجلسَي النواب والوزراء، بمعزل عن الحيثيات والقدرة على ابتكار حلول للمسائل محض الداخلية أو «الموضعية»، والمتروكة معالجتها للتوافق اللبناني ضمن مفهوم إدارة الأزمة.

فأزمات النفايات والرواتب والكهرباء والنفط وسواها، على أهميّتها، لا تدفع المجتمع الدولي إلى التحرّك في شكل طارئ. وحتى مسألة الفراغ الرئاسي وتعطيل المؤسسات تكتسب أهمية في المجتمع الدولي، ولكن في حدود الحاجة إلى ضمان الاستقرار اللبناني. وأما التشريعات المتعلقة بالشفافية والتبييض وتمويل الإرهاب، فتلك مسائل لا تتحمّل الانتظار دولياً.

وهناك ضغوط مارستها قوى لبنانية اغترابية، في بلدان الانتشار اللبناني، على المرجعيات اللبنانية، في اتجاه إنقاذ القطاع المالي اللبناني. فالسلبيات التي يمكن أن تنشأ عن عزل لبنان مالياً ستصيبه هو وأبناءه المنتشرين الذين هم أبرز الضمانات الباقية لصموده.

إذاً، تحت هذا العنوان، لا يمكن للرئيس بري إلّا أن يعقد جلسة تشريعية. والتعبير الذي استخدمه «بمَن حضر» يؤشّر إلى أنّ المطلوب هو عقد الجلسة، ولو لم ينزل إليها سواه!

فرئيس المجلس يدرك تماماً عواقب التلكّؤ، خصوصاً أنّ معاونه السياسي علي حسن خليل هو وزير المال. وأساساً، هو يمارس الدور الذي يستجيب للغطاء الإقليمي والدولي الضامن لاستقرار لبنان. ومهماته في إدارة الحوارات- على أنواعها- منذ العام 2005، تندرج في هذا الإطار.

والرئيس سلام، من جهته، يشارك رئيس المجلس أهدافه. فالرجلان يتواصلان، كلّ مِن موقعه، مع المراجع الدولية وتتكوّن لديهما انطباعات متشابهة في ما يتعلق بالمخاطر. فعزل لبنان عن المجتمع الدولي، خصوصاً في ظلّ الصعوبات القائمة، يعني اغتياله.

إنطلاقاً من هذه الزاوية، يصبح الكلام الداخلي اللبناني تفصيلياً: هل الميثاقية أولوية لانعقاد الجلسات التشريعية أم لا؟

من حسنات وجود رئيس للجمهورية، لو كان موجوداً، أنه يتيح على الأقل للبيئة المسيحية أن تبقى متواصلة مع «كلمة السرّ» الدولية، باعتباره المرجعية الأولى في السلطة.

ولذلك، فإنّ قادة المسيحيين باتوا اليوم معزولين إلى حدٍّ بعيد، وقد «تمرُّ المياه من تحت أقدامهم»، فيما هم ينتظرون وحدهم قانون انتخاب يُصلح الخلل في السلطة وقانوناً للجنسية يُصلح الخلل الديموغرافي… ولا أحد يهتمّ بهم وبشجونهم.

فكيف للآخرين أن يعتبروا الميثاقية أولوية، إذا كان المسيحيون أنفسهم غير متفقين على مفهومها: الميثاقية للعماد ميشال عون هي أن يأتي إلى رئاسة الجمهورية أقوى مسيحي شعبياً، أيْ هو نفسه، وإلّا فليبقَ الفراغ. وبالنسبة إلى الدكتور سمير جعجع، الميثاقية هي أن نملأ الفراغ الرئاسي بالرجل التوافقي الذي يحظى برصيد في بيئته، لأنّ الفراغ ذاته نقيض للميثاقية.

ولعلّ «الميثاقية الواقعية» تقتضي أن يقوم القادة المسيحيون، بدل التلهي بالتفاصيل، بالتوافق على رئيس للجمهورية يحظى باحترام وصدقية وكفاية سياسية وأخلاقية، ويختارونه هم أنفسهم، أيّاً كان. وهناك الكثيرون من الموارنة الذين يتمتعون بهذه المواصفات، وغير المحصورين في أيّ زاوية حزبية مسيحية ضيقة.

وهذا الرئيس سيفرض نفسه ميثاقياً على الجميع، وسينتخبونه «غصباً عنهم» (بالمعنى الإيجابي لا السلبي)، وهو لن يكون قوياً بتمثيله أكبر الشرائح المسيحية فحسب، بل سيكون «خارقاً» لأنه مدعوم بالإجماع المسيحي الكامل، وبالتغطية الوطنية.

حتى اليوم، ليس وارداً ابتداع تسوية مسيحية من هذا النوع. ولذلك، يكتفي القادة المسيحيون بالشكوى من ضياع الميثاقية فيما هم أنفسهم يختلفون على «جنس الميثاقية». ولم يتعلّموا بعد أنّ الحقوق تُؤخذ ولا تُعطى.

وهكذا، يتحرّك القطار ويَترك القادة المسيحيين واقفين في المحطة… على أمل الصعود في القطار التالي. لكنّ القطارات المعبّأة بركابها السنَّة والشيعة والدروز، مبرمَجة إقليمياً ودولياً، وهي تنطلق مضبوطةً، فتنطلق عند الضوء الأخضر وتتوقف عند الضوء الأحمر.

وإذ ينطلق قطار «إدارة الأزمة» مجدَّداً، وفق مقولة «مدركٌ طريقَه وواثقٌ من نفسه»، يبقى «الكاوبوي» المسيحي مترجِّلاً على القارعة، في مرقد العنزة الباقي له… حتى اليوم!