في مطلع حزيران، كان الجميع مرعوباً من فتنة مذهبية تبدأ من عرسال. و«وافق» «حزب الله» على أن يضبط الجيش البلدة، وأما جرودها… فيقوم «أهل البقاع»، أيْ «لواء القلعة» وما شابه، بتحريرها أيّاً كان الثمن… «لئلّا يبقى إرهابيٌّ واحد في البقاع». بعد ذلك بأيام إنطفأ الحديث عن عرسال وجرودها تماماً، وكأن لا معركة هناك ولا مَن يتعاركون. فماذا جرى؟
يقول كثيرون إنّ «حزب الله»، على رغم التمايز الذي حاول إظهاره عن العماد ميشال عون في المواجهة الأخيرة، فإنه في العمق مستفيدٌ من الحراك العوني، وربما يكون هو المحرِّك الحقيقي لعون من خلف الستارة.
فـ«الحزب» قطف ثمارَ التحرُّك العوني، داخلياً ودَولياً، وهي الآتية:
– أظهر للمجتمع الدولي أنه حريص على استقرار لبنان السياسي بعدم إسقاط الحكومة.
– أثبت للسنّة المعتدلين وللسعودية أنه لا يذهب في الغوغاء إلى حدِّ المغامرة باستثارة المواجهة المذهبية.
– أقنع حليفه المسيحي، العماد عون بأنه لن يتركه مستفرداً في المواجهة.
– أثبت لخصومه المسيحيين، الذين يأخذون عليه «إرتهانه لقرار عون السياسي»، أنه يترك لعون هامش التحرّك في المسائل «المسيحية»، كمطالبته برفع التهميش وقانون الانتخابات و«الرئيس القوي»…
هذه المكاسب حقّقها «الحزب» نتيجة الحراك العوني، فيما هو هادئ تماماً ولا يحرق أصابعه بأيّ مسألة داخلية، ولا «يُسوِّد وجهَه» مع أحد. لكنّ «الحزب» يستفيد من وقوفه خلفَ الستارة، لبعض الوقت، لكي يتفرَّغ لمواجهته العسكرية داخلَ الجبهة السورية. فهناك لا يتقرَّر مصير «الحزب» فحسب، بل مصير لبنان. والتكتيك الذي يعتمده يقضي بتجميد معركة عرسال وجرودها لتحقيق مجموعة من الأهداف:
1- فرضت معركة الزبداني نفسها على النظام السوري وحليفه اللبناني. فخطّة المعارضة السورية هي إسقاط دمشق قبل حمص المحصّنة جيداً إيرانياً. ومن هنا، كان الضغط الذي مارسته المعارضة بدءاً من الجنوب السوري، سعياً إلى خرق العاصمة من طرفها الجنوبي.
وترتدي الزبداني أهمية استراتيجية خاصة في معركة السيطرة على دمشق نظراً إلى قربها منها جغرافياً. كما أنّ إسقاطها حيوي لـ»حزب الله» ولتأمين وصوله إلى سوريا، إذ تقع المدينة إلى يمين الخط الدولي بين بيروت ودمشق، وهي في منتصف المسافة بين دمشق وبعلبك.
ولن يستأنف «حزب الله» معركة عرسال وجرودها إلّا بعد التفرغ من عقدة الزبداني. لكنّ مشكلة «الحزب» هي أنّ المعركة هناك ليست سهلة. فالجميع يخوضها كمعركة مصير. وربما تتحوّل استنزافاً سيطول مداه ريثما ترتسم صورة المعارك في كلِّ مناطق «سوريا الحيوية» من الساحل الشمالي إلى الحدود الجنوبية مع إسرائيل والأردن، مروراً بحلب وحماه وحمص ودمشق والحدود مع لبنان.
2- يريد «حزب الله» تبريد جبهة عرسال وجرودها مرحلياً لضرورات التهدئة المذهبية. ففي مطلع حزيران، كاد البعض يتوقع أن يقتحم «الحزب» البلدة، ما يثير الخشية من موقعة ذات طابع مذهبي. وثمّة انطباع لدى العديد من المحللين بأنّ عرسال تشكّل عقبة أمام «الحزب» في مسعاه إلى خلق «منطقة صافية» لنفوذه. ولذلك، طالب «حزب الله» الجيش بأن يقوم بالمهمة عنه أو إلى جانبه.
لكنّ الجيش كان حريصاً على عدم التورُّط في روزنامات خاصة. فالتزم ضبط الأمن في عرسال تحت السقف «المهني». وهذا الواقع يُتيح لـ«الحزب» أن يتعاطى مع عرسال وكأنها في وضعية الهدنة ويؤجّل المشكلة، ولكن إلى حين، ويكتفي بتنفيذ خطته لـ»قضم» ما أمكن من التلال في جرود البلدة عندما يستطيع ذلك.
3- إنّ المواجهة مع «النصرة» في عرسال وجرودها والقلمون يثير التعقيدات في ملف العسكريين المخطوفين. وإذا قام «الحزب» بعملية عسكرية في البلدة، فقد ينفّذ التنظيم تهديده للعسكريين ويتحمّل «الحزب» تبعات ذلك رسمياً وشعبياً.
ومعلومٌ أنّ «النصرة» و«داعش» والتنظيمات الرديفة تميل أحياناً إلى التعاطي مع الجيش اللبناني كحليف لـ»حزب الله». وهذه الصورة مؤذية للجيش. ومن مصلحة «الحزب» أن يترك هامشاً بين دوره ودور الجيش.
4- يحافظ «حزب الله» حالياً على سقف مضبوط للتوتر مع السنّة عموماً، و«المستقبل» خصوصاً، في ظلّ الحرص على الحكومة والحوار والرغبة في إدارة هادئة للأزمة، تقطيعاً للوقت.
لذلك، يرجئ «الحزب» معركته العرسالية، لكنه سيستكملها في أوّل فرصة. فهو لم يغيِّر شيئاً في خطة السيطرة على الرقعة البقاعية- غير مخروقة- في محاذاة منطقة النفوذ الأسديّة.
وستكون المعركة ذات يوم عنيفة جداً في عرسال وجرودها، ويذهب فيها «الحزب» إلى حدود متقدِّمة. وسيسعى إلى الحسم. ولكن، هل يُتاح له ذلك، ومتى، وكيف؟ إنها مسألة تتعلّق بـ»وحدة المسار والمصير» بين لبنان وسوريا.