لا يشعر رئيس الحكومة سعد الحريري بالارتياح لكلام رئيس الجمهورية ميشال عون حول شرعية سلاح حزب الله، كما لم يشعر سابقا بالارتياح من «السقف العالي» للرئيس في ملف قانون الانتخابات، يشعر رئيس الحكومة بالمزيد من الاحراج في شارعه، يرى ان «ساكن» بعبدا يتصرف دون الاخذ بعين الاعتبار مبادىء التسوية السياسية في البلاد والتي تقتضي الحفاظ على «مصالح» الجميع وعدم «كسر» أحد، وبعد ان تجاوز الرئيس في المرة الاولى مصالح تيار المستقبل الانتخابية، ووضع الجميع امام «مأزق الفراغ» برفضه الحاد لقانون الستين، يأتي موقفه من سلاح حزب الله اليوم ليزيد الموقف تعقيدا لدى «بيت الوسط» المحرج في دفاعه عن تسوية يتبين يوما بعد يوم انها تراكم الخسائر، ولم تحقق سوى عودة الحريري الى السراي الكبير، مجردا من المكاسب، فيما مستقبله السياسي على المحك بسبب الاصرار على قانون انتخابي يضعفه نيابيا…فلماذا اندفع الرئيس لحسم ملف «سجالي» ودقيق كملف السلاح بهذا الوضوح؟ مع العلم انه ما يزال محل خلاف داخلي؟
سؤال طرح خلال الساعات القليلة الماضية من قبل اوساط محسوبة على «بيت الوسط»، اعتبرت ان الحريري احد المستهدفين بهذه التصريحات، وبرأيها كان بمقدور الرئيس ميشال عون الاكتفاء بالمفردات الدبلوماسية المعتادة من قبل المسؤولين اللبنانيين الذين تعودوا التملص من الاجابة على الاسئلة المتعلقة بحزب الله وسلاحه، عبر القول ان هذه المسألة جزء من استراتيجية دفاعية وطنية يتم النقاش حولها بين اللبنانيين، لكن اصراره على الاستفاضة بشرح الموقف وتقديم اجابات حاسمة على دور سلاح المقاومة المكمل للجيش اللبناني وعدم تناقضه مع مشروع الدولة، وغيرها من الشروحات التفصيلية التي اعطت شرعية لا لبس فيها حول تدخل الحزب في الحرب السورية، مع وجود ضمانة جازمة بعدم تحول هذا السلاح الى الداخل، يطرح اكثر من علامة استفهام حول المضمون والتوقيت؟
في المقابل، لا ترى اوساط سياسية مطلعة على مقاربة الرئيس، انه كان بصدد توجيه «رسائل» الى الداخل اللبناني، ثمة تفاهم لا لبس مع الجميع ومن ضمنهم الرئيس الحريري، والقوات اللبنانية، بأن ملف سلاح حزب الله خارج سياق النقاش المحلي، وبات جزءا من المعادلة الاقليمية والدولية، لكن هذا لا يعني ان كلام الرئيس كان مجرد «زلة لسان» او مجرد رد على اسئلة كان بمقدوره التملص منها لو اراد، الرئيس عون العارف بدقة المرحلة الاقليمية وحجم الضغوطات الخارجية المقبلة على حزب الله، اراد اعطاء الحزب «غطاء» رسميا وشرعيا من اعلى مركز في الدولة اللبنانية، وهي «مظلة» توازي وربما تفوق باهميتها التغطية التي منحها للحزب خلال حرب تموز بوصفه حينها ممثلا لاكبر الاحزاب المسيحية في البلاد ..
وبحسب تلك الاوساط، فان الرئيس المطلع على التقارير الدبلوماسية الغربية والعربية، يعرف ان هناك بداية لاعادة ترتيب الاوراق في المنطقة انطلاقا من الازمة السورية، وما يحصل من حراك دبلوماسي وتطورات ميدانية يشير الى وجود «طبخة» يجري الاعداد لها تمهيدا لتسوية سياسية بين القوى الاقليمية والدولية، وبعيدا عن احتمالات النجاح والفشل، فان الدول المعادية لمحور المقاومة تضع على «الطاولة» ملف حزب الله، باعتباره احد ابرز المجموعات القتالية المحورية في الحرب السورية، وثمة من يرغب في تحقيق ارباح ثانوية للتعويض عن الخسارة بعد الفشل في تحقيق اهدافه في الحرب وفي مقدمتها اسقاط النظام في سوريا، اسرائيل تقف في مقدمة هؤلاء، واستراتيجيتها تقوم على معادلة واضحة مفادها، اذا خسرنا في سوريا فلماذا لا نعوض في لبنان؟ رئيس الحكومة الاسرائيلية يحمل ملف الحزب الى واشنطن ويريد اخراجه من المعادلة السورية وخصوصا بعد ان بات الحزب على تماس مع الاراضي المحتلة في الجولان، ولا يتوقف الامر عند هذه النقطة بل يتعداها الى «ملاحقة» الحزب الى الداخل اللبناني عبر محاولة اقناع الادارة الاميركية بتفعيل العقوبات على حزب الله وقياداته… ومع بقاء الخيار العسكري ضد المقاومة على «الطاولة»، فان الرئيس عون تقصد حسم مسألة وقوف الدولة اللبنانية وراء الحزب في أي حرب مقبلة..
وما يؤكد وجود هذه «النوايا المبيتة» كلام وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بالامس، عن دور حزب الله في قتال المجموعات الارهابية، ودعوة اسرائيل لاثبات ان السلاح الروسي يصل الى الحزب؟ وهذه التصريحات تؤشر الى وجود ضغوط عالية المستوى لاستهداف المقاومة باشكال مختلفة..ولاتقف هذه المحاولات على الاسرائيليين، فهذا الامر يبدو على «رأس» جدول اعمال تركيا والسعودية، اللتان تحاولان ابتزاز الاطراف الاخرى لوضع حزب الله في مرتبة واحدة مع التنظيمات الارهابية في سوريا..
لهذه الاسباب مجتمعة، لا يجد رئيس الجمهورية نفسه منسجما مع قناعاته فقط، بل وجد انه من الضروري الان وفي هذه اللحظات المفصلية في المنطقة، المجاهرة بها علنا، وعدم ابقاء اي التباس حول موقفه كرئيس للدولة من واحدة من اهم عناصر القوة اللبنانية، التي يعرف عون انها وحدها من ابقت لبنان على خريطة المنطقة، ووحدها تخوله ان يلعب دور يتجاوز مساحته الجغرافية وقدراته المحدودة كدولة صغيرة يدور حولها صراع «الامبراطوريات» في الشرق، ولهذا كان لابد من التأكيد بان قناعة الرئاسة الاولى ما تزال على ما كانت عليه في الرابية. لم يكن الهدف فقط استغلال التحالف مع حزب الله للوصول الى بعبدا، انها علاقة مصيرية تجمع الطرفين، يدرك الرئيس ان قوته لا تكمن في تحالفه المستجد مع القوات اللبنانية، وحدة الشارع المسيحي مهمة لكنها غير قادرة على تغيير المعادلات، كما يدرك ان تفاهماته مع الرئيس سعد الحريري يمكن ان تحقق الاستقرار الداخلي المنشود، لكنها غير قادرة على مواجهة «العواصف» الخارجية، وحده حزب الله من يملك القدرة على لعب هذا الدور، ولانه يعرف ماذا تعني «القوة» في زمن صراعات والتحولات الكبرى، لن يسمح «الجنرال» صاحب التجربة الواسعة، واكثر العارفين بخفايا «لعبة الكبار» القائمة على «البيع والشراء»، بأن يتم استهداف حزب الله لاضعافه..
واضافة الى ما تقدم، فان اهمية هذا الموقف في توقيته ايضا، وليس فقط في مضمونه، فهو يأتي بعد ساعات قليلة على مغادرة وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج ثامر السبهان بيروت في زيارة قيل انها لتفعيل نتائج زيارة عون الى المملكة العربية السعودية، وتأتي عشية زيارة الرئيس الى مصر والاردن، «الرسالة» الرئاسية واضحة للجميع، «لا مساومة على ملف حزب الله، اي انه اخرج ملف الحزب من جدول اعمال زيارته الى القاهرة وعمان، وابلغ السعوديين «بمفعول رجعي»، ان مسألة العلاقة مع الحزب خارج سياق اي تفاهم حول اعادة العلاقات الى «سكتها» الطبيعية مع المملكة، ليس لان في الامر حاجة لاستقرار الاوضاع في لبنان، او لان ضعف الدولة اللبنانية يمنعها من «احتكار» السلاح، بل لان «المنظومة» الردعية التي تمتلكها المقاومة باتت جزءا مكملا لاستراتيجية الدولة اللبنانية، وهذا الكلام بحسب تلك الاوساط يؤكد بعد مئة يوم من وصول الرئيس الى بعبدا، بأن التسوية السياسية كانت انتصارا لتحالفه مع حزب الله، وكل الكلام الذي ورد على لسان قيادات في التيار الوطني الحر ابان المفاوضات الرئاسية لمسؤولين سعوديين بأن العلاقات الجيدة مع «حزب الله» ضرورة لاستقرار البلاد مع السعي لنزع سلاح الحزب في نهاية المطاف.. مجرد «فقاعات صابون» لان هذا القرار بيد رجل واحد لا يسمح لاحد بان «يفتي» او «يجتهد» به، وبات اليوم رئيسا للجمهورية… اما رئيس الحكومة فيدرك جيدا ان عون لم يرغب بالمزايدة على احد في الداخل وكلامه «واقعي» موجه للخارج، سواء «احب»ذلك او «كره»، لكنه في الخلاصة محرج محليا وخارجيا..