خلافاً لتقديرات البعض، ليس هناك اتجاه دولي حالياً لإسقاط «حزب الله» أو إنهاء سلاحه أو انتزاع العديد من نقاط قوته في لبنان. والصورة النمطية التي تُظهر إسرائيل ساعيةً إلى إنهاء «حزب الله» ليست دقيقة. فليس من مصلحة القوى الدولية، ولا حتى إسرائيل، حذف لاعب له دوره الحيوي إقليمياً، فيما المخطط يقتضي الاحتفاظَ بكلّ اللاعبين… حتى النهاية!
مع ارتسام الملامح الأولى للخريطة الشرق أوسطية الجديدة، يستنتج الباحثون لماذا لم يسقط الرئيس بشار الأسد ولم ينتصر، ولماذا لا يُهزَم «حزب الله» في لبنان، ولماذا يحصل الأكراد على تغطية دولية لكيانهم، ولماذا «داعش»، ولماذا لم يخسر الحوثيون ولم يربحوا، وكذلك شيعة العراق…
وفي اقتناع الخبراء أنّ كلّ اللاعبين على رقعة الشطرنج في الشرق الأوسط لهم أدوارهم.
فمِن دون «الحزب»، يكون الأسد أشدّ ضعفاً وأكثر عرضة للسقوط، والسقوط ممنوع. ومن دون «الحزب»، يختلُّ التوازن بين المحورَين الإقليميَين، حتى في لبنان. فالمطلوب دوام الصراع إلى أن تنضج عملية تثبيت مناطق النفوذ. والتطوّرات الأخيرة معبِّرة، في سوريا والعراق.
يريد الإسرائيليون شرذمة المنطقة. فهم لم يتدخلوا في المعارك السورية إلّا على حدودهم أو لضرب السلاح غير التقليدي، في مكانه أو خلال نقله إلى «الحزب». والباقي قتال مرغوب فيه. وحتى حرب تموز 2006 دمرت لبنان واقتصاده، وأما «الحزب» فقد نجا منها.
ويمكن القول إنّ «حزب الله» يسيطر اليوم على معظم نقاط القوة في لبنان، بتغطية أو غضِّ نظر دولي. فبعد مؤتمر الدوحة 2008، حسم «الحزب» معركته اللبنانية. ومع تطيير حكومة الرئيس سعد الحريري، تفرَّد بالسلطة.
وعندما إزدادت الضغوط الأمنية، بالتفجيرات الانتحارية في الضاحية والهرمل، عدَّل «الحزب» في خطة السيطرة: تخلّى عن الحكومة الميقاتية، وجاء بحكومة يرئسها تيار «المستقبل»، وله فيها الحجم والدور، أيْ استعان بسُنَّة الاعتدال لضرب سنّة التطرُّف.
والمثير هو التغطية الدولية للشراكة بين «المستقبل» و»حزب الله» في الحكومة. فهي تؤكد أنّ المطلوب هو استمرار «الحزب» قوياً على الساحة الداخلية، لأنّ انهياره كان سيرجِّح كفَّة القوى السنّية المتطرفة في لبنان. ولذلك، تبلَّغ «المستقبل» نصائح عربية ودولية بمشاركة «الحزب» في الحكومة والحوار، في معزل عن التباعد في الملف السوري.
ويرتاح «الحزب» إلى أنّ كلّ أدوات السيطرة الحقيقية، لا الشكلية، بقيت في يده، وأبرزها الآتي:
1- تخلّى «المستقبل» عن شرطه خروج «الحزب» من سوريا. وبات يتعايش مع الملف، تاركاً للزمن أن يعالجه. وهذا أمر يريح «الحزب». واستتباعاً، تضيِّق الأجهزة على الجماعات اللبنانية المقاتلة إلى جانب المعارضة في سوريا، وتحصل على معلومات من أجهزة دولية عن الخلايا الإرهابية في لبنان. لكنها تتجاهل نشاط «حزب الله» ذهاباً وإياباً عبر الحدود.
2- مع أن «الحزب» يرغب في أن يكون الجيش اللبناني أكثر تناغماً معه في بقعة الحدود، وفي عرسال خصوصاً، فهو مرتاح إلى هذا السقف من التنسيق معه.
3- باتت 14 آذار تتبنّى نظرية جنبلاط القائلة بالكفّ عن مطالبة «الحزب» بالتخلّي عن سلاحه، ما دامت عبثية. وهذا أيضاً يريح «الحزب».
4- هناك مؤسسات يسيطر عليها «الحزب» أو «يمون عليها»، ولا ينطبق ذلك على المحكمة العسكرية وحدها. فالحكم على ميشال سماحة فاجأ 14 آذار، لكنّ المفاجأة ليست مبرَّرة. فالمسار الذي سلكه الملف منذ اليوم الأول، خصوصاً بعد اغتيال اللواء وسام الحسن، كان تمييعياً.
5- يمتلك «الحزب» قدرة على التعطيل في المجلس النيابي والحكومة. وهو يكرِّس الفراغ في موقع رئاسة الجمهورية، وراء حليفه العماد ميشال عون. وقد يتسع الفراغ إلى مؤسسات أخرى، ما يسهِّل على «الحزب» أن يدفع بمشروعه، أيْ المؤتمر التأسيسي الذي قد يحظى برعاية دولية.
إذاً، هناك هامش مسموح به لـ«الحزب»: الإنتصار ممنوع، وكذلك الانكسار. فهو لاعب أساسي، وستكون له كلمة في رسم المستقبل اللبناني، وحلفاؤه الإقليميون لهم كلمتهم أيضاً في سوريا والعراق واليمن وسواها.
وأما المراهنة على إسقاط «الحزب» وحلفائه في المواجهة مع خصومهم الإقليميين أو إسرائيل فتبدو عقيمة. الأقوياء ليسوا أقوياء في الشرق الأوسط، ولا الضعفاء ضعفاء. وقبل أسابيع قليلة، فور إعطاء المعارضة السورية ضوءاً أخضر، إجتاحت إدلب وهدَّدت حلب وكادت تنزل إلى الساحل لولا اصطدامها هناك بالضوء الأحمر. وفي اللحظة التي أعطي فيها الضوء الأخضر- إياه- للأسد و»حزب الله» تقدَّما في القلمون سريعاً.
ولذلك، لا خوف على قوة «حزب الله» في لبنان، ولا خوف منها. والكل تحت السيطرة. والضوء الأخضر جاهز كما الأحمر، له ولسواه. وبين الأضواء الخُضر والحُمر سيَرتسم مستقبل لبنان والمنطقة.