بعد إطلاق الرئيس سعد الحريري مراجعة نقدية داخلية في تيّار «المستقبل»، على خلفية نتائج الانتخابات البلدية والاختيارية، وإعلان رئيس «اللقاء الديموقراطي» النائب وليد جنبلاط بداية مراجعة في الحزب «التقدمي الاشتراكي»، وإبلاغ رئيس مجلس النواب نبيه برّي «المستقبل« نيّته إجراء مراجعة مماثلة في حركة «أمل»، كثيرون تساءلوا: ألا تستحق هذه النتائج مراجعة داخل حركة 14 آذار؟
لا شك في أنّ هذا السؤال أُثير مراراً وتكراراً في السنوات الماضية، إلى أنّ تُوِّج بدعوة صريحة من الرئيس الحريري لإجراء هذه المراجعة في خطابه الذي ألقاه في ذكرى اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في 14 شباط الأخير. ذلك أنّ عشرات الأسباب السياسية كانت تدفع إلى إجراء هذه المراجعة وصولاً إلى افتراق الحلفاء حول أكثر من استحقاق حكومي ورئاسي وإداري وانتخابي. لكن هذه المراجعة لم تتمّ، لأسباب معروفة وأخرى غير معروفة.
أمّا اليوم وبصرف النظر عن رغبة قوى 14 آذار في إجراء هذه المراجعة أو عدمها، فإنّ نتائج الانتخابات البلدية والاختيارية عكست إشكاليات بنيوية وتنظيمية في هذه الحركة، تُضاف إلى الإشكاليات السياسية، يفترض قراءتها وفهم أسبابها وملابساتها، بعيداً عن معارك الأحجام التي كانت هاجساً أساسياً لدى معظم هذه القوى.
ذلك أنّ قراءة هذه النتائج تُظهر اصطفافاً جديداً داخل 14 آذار عنوانه «المجتمع المدني والمستقلّون في وجه الأحزاب». هذا كان القاسم المشترك مثلاً بين انتخابات بيروت وطرابلس وبشرّي. ففي العاصمة خاضت «بيروت مدينتي» معركة انتخابية ضدّ تيّار «المستقبل»، مع العلم أنّ الأولى تنتمي بمعظم أعضائها إلى فلك مجتمع 14 آذار المدني وتضمّ ناشطين سابقين في هذا الفلك، تماماً كما هو حال اللائحة المنافسة للائحة «لطرابلس» المدعومة من تيّار «المستقبل» وتيّار «العزم» والوزيرَين السابقين محمد الصفدي وفيصل كرامي. أمّا في بشرّي فقد خاضت مجموعة من «القواتيين» معركة ضدّ لائحة «القوّات اللبنانية» بسبب اعتراضات عديدة أبرزها رفضهم لترشيح حزبي «قوّاتي» على رأس اللائحة المدعومة من «القوّات» بخلاف ما كان الحال في المجلس البلدي السابق الذي كان يرأسه «مستقلّ».
ماذا يعني هذا الاصطفاف؟
باختصار، هذا يعني أنّ الجسمَين اللذين لم ينالا دورهما، أو حجمهما المطلوب، في المجلس الوطني لـ14 آذار الذي يرأسه النائب السابق سمير فرنجية، هما اللذان خاضا معارك ضدّ أحزاب 14 آذار في الانتخابات البلدية، أي المجتمع المدني والمستقلّون. ذلك أنّ الأسباب الموجبة التي دفعت إلى تشكيل هذا المجلس، وأبرزها إعطاء حيّز جدّي ووازن لمجتمع 14 آذار المدني ومستقلّيها، أجهضت بسبب اعتراض بعض الأحزاب المسيحية على منح هذين الجسمَين حيّزاً موازياً للأحزاب.
وقد كشف النقاب في حينه عن رسالة بعث بها رئيس أحد الأحزاب المسيحية إلى منسّق الأمانة العامة لـ14 آذار النائب السابق فارس سعيد رفض فيها منح المجتمع المدني والمستقلّين مساحة وازنة في المجلس الوطني.
وواقع الحال أنّ المجتمع المدني ومعظم المستقلّين عبّرا عن احتجاجهما على هذا الإقصاء ليس في الانتخابات البلدية وحسب وإنّما قبل ذلك في ما سمّي «الحراك المدني» الذي نزل إلى الشارع اثر اندلاع أزمة النفايات، حيث شارك في هذا «الحراك» رموز وناشطون سابقون في 14 آذار، تماماً كما حصل أخيراً في الانتخابات البلدية والاختيارية المُشار إليها آنفاً.
ومعنى ذلك أنّ شريحة من نخب 14 آذار شاركت في حركات مدنية سياسية ردّاً على «ريفية سياسية» عند بعض الأحزاب استبعدتها أو رفضت إعطاءها حجمها الطبيعي في اطار «معركة أحجام» لم تتوقّف منذ سنوات، أو على قاعدة عصبية «السمك الكبير يأكل السمك الصغير»، بخلاف روح 14 آذار ونصّها وأدبياتها التي طالما تمسّكت بالديموقراطية سبيلاً للتمثيل.
ولعلّ الشريحة الأكبر من هؤلاء المدنيين والمستقلّين التي عبّرت عن اعتراضها المُشار إليه تنتمي إلى فئة الشباب الذين لم يكونوا بلغوا هذه الفئة في 14 شباط 2005، ما يفترض قراءة متأنية لهواجس هذه الفئة واعتراضاتها، التي طالما مثّلت العصب الأهمّ لحركة 14 آذار.