في موازاة الترحيب الخجول بشكلِ ومضمونِ وثيقة «النإي بالنفس» التي صدرت أمس الأول إيذاناً بعودة الرئيس سعد الحريري عن استقالته، بحث المراقبون المحايِدون عن الجديد فيها فلم يعثروا عليه. لا بل فقد ثبت لديهم أنّ ما أُقرّ لا يمتلك القوّة الدستورية والقانونية في غياب آليات المحاسبة. ولذلك طرح السؤال عن أولويات الحكومة للمرحلة المقبلة وما يمكن إنجازُه؟
قبل شهر ويومين بالتمام والكمال اعتقد كثيرون أنّ الحكومة سقطت بالضربة القاضية وأنّ رئيسها سيغادر المسرحَ السياسي عقب إعلان استقالته من الرياض، ما رسم علاماتِ استفهام عدة حول التجربة الجديدة التي لم يعش لبنان مثيلاً لها منذ استقلاله، وطريقة عبورها بأقل الخسائر الممكنة.
كانت الخطوة الأولى والوحيدة التي أجمع عليها اللبنانيون من أهل الحكم والمعارضة وأصدقائهم الدوليّين السعي لإستعادة الحريري الى بيروت ليقول كلمته الحرة في مصير الحكومة وتطوّرات الأزمة، أيّاً كانت الظروف التي حكمت تلك الخطوة.
وعلى وقع الحراك الداخلي والخارجي انقلبت الصورة تدريجاً وعاد رئيس الحكومة من طريق باريس والقاهرة، وعبر محطة نيقوسيا التي لم تفهم أسبابها الموجبة حتى الآن، ليتريّث في تقديم استقالته من دون التراجع عن مضمونها الداخلي السياسي والأمني كما أذاعها من الرياض. فتلاحقت الخطى لتجاوز أزمة التريّث الحكومي.
وعلى «قاعدة أنا وخيّي على إبن عمي وأنا وإبن عمي على الغريب» اعترف بعض أهل الحكم والحكومة ومَن اتّهمهم الحريري مباشرة بالخروج على ما هو معلَن من التسوية السابقة بالتّهمة الموجّهة اليهم وبدأ السعي لتلبية مطلبه، ولو في الشكل، بالإبتعاد عن مجريات العمليات العسكرية في أزمات المنطقة من دون أيّ ضمانات أو خطوات مباشرة يمكن قراءتها بوضوح وصراحة ووفق جدول زمني كان البعض يمنّن النفس به.
اعتقد البعض بإقتناع أو من دونه، تماشياً مع القول «إنه ليس في الإمكان افضل ممّا كان»، إنّ في الامكان سحب «حزب الله» من آتون الحروب العربية وتقديم عرض جديد يرضي المحور المؤيّد لرئيس الحكومة، والذي على ما يبدو قد أعطى مهلةً لتجاوز الأزمة من دون المَسّ بالإستقرار الأمني والإقتصادي في لبنان ضماناً لما قالت به الرعاية الدولية التي عبّرت عنها «الهبّة» الأوروبية والعالمية.
وعليه وُلدت «الوثيقة» التي أصدرها مجلس الوزراء بما حملته من استنساخ للبيان الوزاري وخصوصاً في الفقرات التي لم ترَ النور ليس لخطأ ارتكبه «حزب الله» بمفرده، بل لأنّ اللبنانيين تعاطوا مع هذا العنوان «على القطعة» فتضاربت المواقف وتبدّلت بين محطة وأخرى على ما ثبت لبعض الدوائر الديبلوماسية التي سجّلت عدداً من الملاحظات السلبية.
فإلى الحرص الدولي على استقرار لبنان لا يخفي أحد الديبلوماسيين بسلسلة من الأسئلة التي لم يجد لها جواباً حتى اليوم. وهو يسأل عمّا إذا كان المسؤولون اللبنانيون الذين ينادون بحاجة البلد الى سلاح «حزب الله» الى جانب سلاح الشرعية يتذكّرون أنّ لبنان عضو في الحلف الدولي ضدّ الإرهاب؟ وأنّ الجيش يعتمد على المساعدات الأميركية والأوروبية التي حسمت معركة «فجر الجرود»؟ وهل نسوا أنّ لبنان يطبّق العقوبات الأميركية ضد «حزب الله» والمجموعات الإرهابية؟ ولذلك كيف يوفّقون بين هذه الإجراءات وتلك التي تناقضها؟
وفي الوقت الذي ما زال هذا الديبلوماسي ينتظر جواباً على اسئلته هذه، حاول أن يقرأه في قرار مجلس الوزراء الأخير فلم يقنعه. لكنه وبدلاً من الرفض المطلق تمنّى أن يخضع التوجّهُ الجديد للتجربة فيختبرها عند أوّل استحقاق يمكن أن تواجهه البلاد وهو قد لا يكون بعيداً.
كما نزل عند رغبة البعض في إعطاء الأولوية لتطبيق بند وقف الحملات الإعلامية كاستحقاق هو الأسرع والأقصر مدى للتثبّت من المتغيّرات التي تحدّثت عنها الحكومة واستحقّت العودة عن الإستقالة.
وعدا عن الحديث المتردّد عن «مرحلة التجارب» المقبلة، يتطلّع المراقبون الى سلسلة الإستحقاقات الآتية على الحكومة ولبنان وطريقة تعاطيها معها. ويدعون الى انتظار النتائج المترتّبة على مؤتمر مجموعة الدعم الدولية المقرّر غداً لتعطي نتائجه أولى المؤشرات الى التفهّم الدولي والعربي للخطوة اللبنانية.
عدا عن الإستحقاقات الداخلية الأخرى التي على الحكومة مواجهتها وفي اولوياتها الإنتخابات النيابية المقبلة مضافة الى القضايا المعيشية من ملف النفط والغاز الى بواخر إنتاج الطاقة الكهربائية والنفايات، وكذلك المالية والاقتصادية كموازنة سنة 2018 وصولاً الى الإدارية منها والمتّصلة بالتعيينات الإعلامية وتلك المتعلّقة بالمجلس الدستوري التي يستعجلها البعض قبل الإنتخابات النيابية المقبلة لألف سبب وسبب.
وكل ذلك يتزامن مع البحث في ملفات الفساد التي كان البعض يمنّن النفس بمعالجتها من خلال استبدال بعض الوزراء وإعادة توزيع الحقائب ويعتقد كثيرون أنها ما زالت قيد البحث وربما على نار حامية، لأنّ هناك مَن يعمل لإمرارها منعاً لتمادي بعض الوزراء في مخالفاتهم التي لا توحي بإمكان إحياء الثقة بالحكومة بالسرعة التي يرغب بها بعض أهل الحكم.
وتجدر الإشارة الى هناك مَن يرغب في إعطاء الحكم والحكومة مهلة ليست طويلة للتثبّت من صدقية الإلتزامات الجديدة، علماً أنّ هناك مَن سيرافق هذه المرحلة من داخل مجلس الوزراء لمحاسبة المخل بمضمونها الفضفاض في وقت تصرّ جهات أخرى على إعطاء الإستقرار أولويّة على المبادئ والشعارات التي لا تتطابق ومضمون الحلّ وسط سعي دؤوب لاعتبار أنّ ما تمّ التفاهمُ بشأنه لا يشكل انتصاراً لفريق على آخر بل هو انتصار للبنان.