IMLebanon

لهذه الاسباب رفضت «تسوية» جنبلاط

لم تُحَلّ الأزمة الحكوميّة المنبثقة من ملفي عرسال والتعيينات المتفجّرَين بعد. كما كان متوقّعًا، أرجئ «الحسم» إلى يوم الخميس، لعلّ الساعات الفاصلة تحمل معها معجزة ما، انسجاماً ربما مع الآية الكريمة: «وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ»، في ظلّ «رهاناتٍ متصاعدةٍ» لدى البعض على «فَرَجٍ» قد تحمله زيارة رئيس الحكومة تمام سلام إلى المملكة العربية السعودية، علمًا أنّ «التيار الوطني الحر» حرص على استباق هذه الزيارة بتسريب رفضه المُطلَق لأيّ «تنازلٍ» من أيّ نوعٍ كان، بل نيّته «التصعيد» وصولاً حتى إلى استخدام لعبة الشارع، مع ما لها من حساسيات بالنسبة للكثيرين.

وإذا كان المعنيّون من خصوم عون قد تنفّسوا الصعداء في ضوء المواقف التي أطلقها رئيس المجلس النيابي نبيه بري تحت شعار «الحكومة خطّ أحمر»، والتي أوحت بما لا يقبل الشكّ أنّه لن يسير خلف رئيس تكتل «التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون في معركته الآتية، فإنّ رئيس «الحزب التقدّمي الاشتراكي» النائب وليد جنبلاط قرّر كسر «الجمود» من جديد على طريقته، فاستغلّ «الوقت الضائع» بين الجلستين لطرح سلسلة إجراءاتٍ تُختصر بعناوين ثلاثة، ألا وهي سلة متكاملة من التعيينات دون تجزئة، تكريس منطق التسوية للوصول لمرشح رئاسي توافقي، وعقد جلسة نيابية تحت عنوان «تشريع الضرورة».

قد لا تكون مقترحات جنبلاط عبارة عن مبادرة بالمعنى الحرفيّ للكلمة، تقرّ أوساط محسوبة على «الحزب التقدّمي الاشتراكي». هي تلفت إلى أنّ «البيك» أصلاً لم ينبس بكلمة «مبادرة» لا من قريب ولا من بعيد على طول موقفه لصحيفة «الأنباء» الصادرة عن الحزب، والذي ضمّنه طروحاته هذه، موضحة أنّ أمر التسمية هو ثانوي ومتروكٌ للآخرين، خصوصًا بعدما درجت ما يمكن تسميتها بموضة المبادرات، بحيث أصبح كلّ من يقول كلمتين لا طائل منهما لا يتوانى عن تسميتهما بـ «المبادرة»، ومن دون تردّد. «ليسمّوها أفكاراً، ليسمّوها خواطر، ليسمّوها ما شاؤوا»، تقول المصادر، مضيفة: «المهمّ أن يأخذوها بعين الاعتبار، وأن يعيروها بعض الجدية المطلوبة».

تشير المصادر إلى أنّ هذه المقترحات أتت من إحساس جنبلاط بحجم المخاطر المحدقة بالبلد، في وقتٍ تكاد «عدوى» الفراغ تشمل كلّ المؤسسات من دون استثناء، وبعدما بات «الشلل» في الحكومة نفسها قاب قوسين أو أدنى، ما يتطلب من مختلف الأفرقاء أن يكونوا على قدر حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم، وأن يتلافوا أيّ خطواتٍ يمكن أن تكون «انتحارية» ليس لهم فقط، بل للوطن برمّته. وتلفت إلى أنّها ليست المرّة الأولى التي يتحرّك فيها جنبلاط في محاولةٍ للوصول لحلول تسوويةٍ تُخرِج الأزمة من عنق الزجاجة، وقد قدّم العديد من المبادرات منها ما كان علنياً على غرار ترشيحه عضو «اللقاء الديمقراطي» النائب هنري حلو كمرشح وسطي، بعدما تيقّن منذ اليوم الأول أنّ وصول أحد «كبار المرشحين» سيكون من «سابع المستحيلات»، ومنها ما بقي خلف الكواليس على غرار «الوساطة» التي قادها مؤخرًا في ما يتعلق بـ «مقايضة التعيينات» لجهة تعيين العميد شامل روكز قائداً للجيش خلفاً للعماد جان قهوجي مقابل تعيين العميد عماد عثمان مديراً عاماً لقوى الأمن الداخلي خلفاً للواء ابراهيم بصبوص.

وفي حين ترفض المصادر تأكيد أو نفي ما يُحكى عن اصطدام «الوساطة الأخيرة» بالحيطان المسدودة من جانب «تيار المستقبل»، مكتفية بالقول أنّ «البيك» لا يستسلم وأنّ محاولاته للوصول إلى قواسم مشتركة ستستمرّ حتى اللحظة الأخيرة، تشير إلى أنّ البند الأول من مقترحاته الجديدة، لجهة السلّة المتكاملة، يصبّ في الخانة نفسها، بحيث تأتي مختلف التعيينات عبارة عن «سلّة متكاملة» بشكلٍ يرضي الجميع ولا يخشى أحد «خديعة ما» في مكانٍ ما. أما ما يتعلق بـ «تكريس التسوية»، فتقول المصادر «الاشتراكية» أنه قد يبدو «صادمًا» للوهلة الأولى، باعتبار أنّ كلمة «تسوية» لا تزال غير محبّذة، لكنّها تشير إلى أنّ القراءة الواقعية لمسار الأمور لا تترك خياراً آخر في نهاية المطاف، «فالتسوية آتية لا محالة، والكلّ يعلم أنّ سياسة الغالب والمغلوب لا يمكن أن تنجح في لبنان، والتوافق سيبقى الأساس»، ولذلك، فهي تدعو لتقليص «الوقت الضائع» على المستوى الرئاسي، والانكباب على إنجاز توافقٍ محلي قبل أن يتمّ «فرضه» من الخارج بعد أن تتخطى الأمور الخطوط الحمراء المرسومة. ويبقى «تشريع الضرورة»، الذي بات أكثر من «ضرورة»، في ظلّ المشاريع التنموية التي تكاد «تطير» على لبنان، لأنّها تنتظر منذ أشهر انعقاد جلسة تشريعية لإقرارها، وهو ما لا يحصل، ما يهدّد علاقة لبنان مع مؤسسات التمويل الدولية بشكلٍ عام.

وإذا كانت أوساط مختلف الكتل فضّلت التريّث بعض الشيء قبل الحكم على طروحات جنبلاط سلباً أو إيجابًا، فإنّ أوساطاً محسوبة على «التيار الوطني الحر» اعتبرت أنّ ورود عبارة «التسوية» فيها كافٍ لرفضها مبدئياً، خصوصًا أنّها انطلاقاً من ذلك تبدو «تكراراً منمّقاً لتسوية الدوحة لا أكثر ولا أقلّ». تقول هذه الأوساط أنّها تتفهّم «حرقة» الرجل على فعل شيءٍ ما بعدما باتت حالة الفراغ مستشرية في مختلف مؤسسات الدولة، ولكنّها تشدّد على أنّ رئيس تكتل «التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون كان واضحًا وحازمًا عندما قطع عهداً على نفسه بعدم تكرار تسوية الدوحة المذلّة مهما كان الثمن.

ترفض الأوساط ما ذهب إليه جنبلاط من أنّه «لا مفرّ من تكريس فكرة التسوية»، وذلك اعتمادًا على ذريعة « صعوبة تحقيق أيّ من كبار المرشحين هدفه المشروع للوصول الى الرئاسة»، وهي إذ لا تتردّد في القول أنّ «فراغ القصر» اليوم يبقى أفضل من ملئه بمرشحٍ بلا لون ولا طعم سيؤدّي لـ «فراغٍ أسوأ وأمرّ» في واقع الأمر، تعتبر أنّه كان الأجدى بجنبلاط إذاً أن يساند التكتّل في معركته لتحرير انتخابات الرئاسة من كلّ هذه العقبات المفتعلة والمصطنعة، عبر جعل الشعب فعلاً مصدر كلّ السلطات، وإعطائه الكلمة الفاصلة.

هكذا إذاً، يبدو أنّ «تسوية» جنبلاط رُفضَت قبل أن يجفّ الحبر الذي كُتِبت به. المشكلة هي في منطق «التسوية» الذي لا يزال يرفضه من يعتقدون أنّهم مؤهَّلون للوصول إلى قصر بعبدا، وأنّ من خالفوا الدستور حينما مدّدوا لأنفسهم رغمًا عن إرادة من يدّعون تمثيلهم ليسوا في المقابل مؤهّلين لمنعهم من ذلك. وإذا كان هذا هو تشخيص المشكلة، فإنّ «العلاج» من جديد لا يبدو متوفراً سوى بإعادة النظر بالنظام بشكلٍ كامل، سواء على طريقة مؤتمرٍ تأسيسي أو غير تأسيسي، وقبل فوات الأوان…