“أنا صار لازم ودّعكن وخبّركن عنّي
أنا كل القصة لو منكن ما كنت بغنّي“
زياد الرحباني
كانت الإشاعة الساذجة أيام الرحابنة الكبار، تقول إنهم شيوعيون. وما أكثر الأدلّة: حَكي دائم عن العمال، وأغانٍ عن الفلاحين والمساكين. وقد ذهبت بيّاعة البندورة، فيروز، إلى أبعد من ذلك عندما هتفت في الساحة، للكنّاسين، الذين يطلع الضوء على وَقْع وصولهم وحركة مكانسهم. في بلد محافظ، يومها، شديد الإيمان بكل فروعه. كان بسطاء لبنان يتعوّذون من فكرة الإلحاد ويخافون أي اهتزاز في حياتهم البسيطة، حتى لو كان ذلك في سبيل تغييرها. لم يُثبَت لهم أن الشعر الرحباني شيوعي أو ماركسي، لكن التحوّط حكمة في أي حال.
وُلد زياد الرحباني العام 1956 في منزل تُرفرف على قرميده الأعلام. بدل أن ينسى البؤس الذي وُلد فيه جيل آبائه، قرّر أن ينظّم تمرّده عليه. كان ذلك جيل الأبناء، وكانوا جميعاً ضد السائد. عندما انتهت الحرب اكتشف جيل الأبناء أن اليسار قد يتخطّى (مثل اليمين) الفكر إلى العنف. فانصرف كل منهم إلى البحث عن سَكينة والده ووسطيّته. وبقي زياد الرحباني شارداً على مسرحه. يُراشق بموهبته ذات اليمين وذات الشمال. وإذ انطوى الحزب الشيوعي الأب في موسكو، وأحال مؤلفات ماكسيم غوركي على المخازن، أصرّ زياد على الاستمرار في رفع راية المنجل والمطرقة فوق مبنى “صوت الشعب”.
أي شعب؟ هل هو “الشعب العنيد” الذي سخَر منه في أعماله؟ الشعب “الطيب” الذي ضحك منه في مسرحيات الضحك من الرحابنة الأوائل؟ هل إن زياد الرحباني صار مجرد رفيقٍ في حزب الأمين خالد حداده؟ من هو حقاً زياد الرحباني، الذي تدلِّله العموم باسمه الأول، زياد؟ كأن لا حاجة للَمَعانه باسم ذلك الأثر الخالد في تاريخ لبنان الفني والفكري والإنساني، الرحباني؟
بعد الآن سوف نشير إلى الابن الشقيّ، باسمه الشعبي. كما تحوّل اللاوعي عند الناس إلى الإشارة إلى عاصي ومنصور، بالاسم الأول، هكذا حصل في ضمّ زياد إلى عباقرة “الاسم الأول”. مجرد جيل آخر! ولكن ألا يعرف الجيل التالي الاستقرار؟ لا أدري. لا أعرف زياد، إلاّ كمستمع ومشاهد. ولا أضيف كقارئ أيضاً، لأن زياد شخصية غنائية. ولست أقرأ النثر بالعامية، سواء كان سعيد عقل أو سواه. لذلك، لا فكرة لديّ عن ماذا اختلف زياد مع جريدة “الأخبار” وعلى ماذا اتفق. أنا لا أتخيّل زياد إلاّ مخاطباً الناس. “تروبادور” يقرأ علينا، بلهجته، وبالنبرة القلِقة التي أخذها من فيروز، بالسخرية العابثة التي أخذها من نفسه: “فو ليه فو برُندر آن كافيه شي نُو”.
قرار زياد الهجرة إلى روسيا حدث غير لطيف. غير لطيف على الإطلاق. واعتقادي أن الإقامة في بلاد لينين لن تطول. وسوف يكتشف، أول ما يكتشف، أن زيارة جثمان الرفيق المؤسس فلاديمير إيليتش، غير ممكنة، لأنه، كلما حاول، سيجد أمامه طابوراً طويلاً من السياح، القادمين إلى الكرملين في رحلات منظّمة. جميعهم يريدون أن يروا جثمان الرجل الذي سحَر نصف الكرة سحابة القرن، ثم تحوّل إلى بطاقة بريد تُرسل إلى الأهل في أميركا حيث كان ذِكْره ممنوعاً، يوم كان ذلك يشكل خطراً على ألدو جونز.
لن يجد زياد أحداً من الرفاق ولا من الأحلام القديمة ولا مَن يهتمّ بالمشردين في الشوارع، ولن يتعرّف إلى معالم موسكو، التي صارت واجهاتها تشبه واجهات باريس ولندن وبيفرلي هيلز، وتنافسها. لقد تغيَّر العالم، ليس في بيروت وحدها. “فيلم أميركي طويل” في كل مكان. ولم يعد بطَله جون ويْن بقبّعته يُقلقه الكاوبوي ومسدس الونشستر، بل صار الرجل الأسمر الذي لم يكن يظهر في الأفلام إلاّ في دور العبد الهارب من صاحبه في براري الجنوب وروايات وليم فولكنر.
محطة أخرى وخيبة أخرى في حياة زياد. مرة أخرى يكتشف أن الحرية شيء لا تعطيه السياسة إلاّ لنفسها، وكل حرية أخرى عبء عليها. مرة أخرى يكتشف الغزال الشارد أن ثمّة سياجاً في نهاية المدى. ويكتئب. عاش جيل 1956 شبابه ونجاحاته وآلامه وخيباته في أزمان الحرب. عندما أخرج زياد “نزْل السرور” كان الضحك قد أصبح غير لائق في بلد ينزلق سريعاً إلى الحزن والفوضى والانهيار. ومع ذلك، أصرّ على أن يستمر في أن يحيا الشخصية التي وُلد فيها: شخصية تشارلي شابلن الذي يكتب النص والحوار والموسيقى ثم يتصدّر هو أيضاً المسرح، طاغياً على كل حضور سواه.
أعطى زياد نفسه الحرية المطلقة كفنان وكشخصية اجتماعية. رفض جميع النظُم وتجاهل ما هو مألوف. خرج من إطار العائلة الأبوية ثم من إطار العائلة الزوجية وحتى من عائلة المشاركة. بقي الولد المتمرّد رجلاً متمرداً. وفي داخله لعلّه كان حزيناً، لأنه لم يستطع الخروج من أسر الاسم أو من إطار الصورة. الوريث رغماً عنه.
حتى أجمل الأغاني التي وضعها لفيروز، كانت الناس تعتقد أنها للأوائل. وإذ حاول الابتعاد كثيراً بفيروز عن النغَم المحفور، بدا غريباً. هو واللحن وفيروز، التي بقيت هي ذاتها حتى وهي تردّد “اشتقتلك واشتقتلك”. كانت لزمن طويل قد عوّدت الناس على “لملمتُ ذكرى لقاء الأمس بالهُدُب”، وخدّرتهم على “يا قمر مشغرة، يا بدر وادي التّيْم”. لكن زياد أراد أن ينقلها إلى إيقاع الجاز، إلى حناجر نيو أورليانز. وقد كان ذلك بعيداً جداً عما عشقَته الذاكرة.
ماذا كان حدث لو استمر منصور يكتب وزياد يُلحن وفيروز تغني شيئاً مثل “سألوني الناس”؟ لا أدري. الأقدار لا تعترف بالتمنيات. والانشقاقات العائلية أكثر حدة وعمقاً من أن تُدرك. الرحابنة أرادوا منّا أن نعاملهم كبشر عاديين. وقد رفضنا ذلك. وكان عليهم هم أن يقدّروا ضُعْفنا وليس علينا أن نقدّر ضُعْفهم.
بعد عالم عاصي ومنصور حاول زياد أن يقيم عالَمه، لكنه لم يصمد طويلاً. كما هجمَت السينما الناطقة على عبقرية تشارلي شابلن الصامتة، هكذا هجم عصر الكليبات على ألحان زياد. وهكذا هجم المسرح “السريع” على مسرحه. وهو الذي سمح لنفسه أن ينتفض على مسرح العائلة، لم يستطع أن يتقبّل فكرة البرابرة الجُدد على أبواب روما. ولم يستطع أن يتقبّل، خصوصاً، حصار الذاكرة المضروب عفواً حول فيروز. فهي لا تزال “ديفا” العرب وألوان الشروق، لكنها تأخذ الناس إلى الماضي ولا تحضَر إلى حاضرهم.
تزايد بُعدُ زياد عن معالجة لبنان بالفن إلى معالجته بالسياسة. “صوت الموسيقى” صار عاملاً كادحاً في “صوت الشعب”. الالتزام عدوّ الفن. إذا قاَبل زياد في موسكو الشاعر ايفتوشنكو، الذي كان يُوفده السوفيات إلى العواصم صورة عن الحداثة في بلاد بوشكين، فسوف يعترف له اليوم.
أيقن زياد صعوبة الجمْع بين الالتزام والفن من خلال شركته الأخيرة مع إعلام الممانعة. ليس لذلك أي علاقة بالقناعات، فهو في هذا الخط، أو هذا الجانب، قبل ظهور التسمية. لكن الذي لم يطِق أسر الأصول الفنية في الأسرة الرحبانية سوف يشعر بالتململ في قاعدة محدّدة التعبير. يضاف إلى ذلك كله تلك المشاعر الغامضة والمعقّدة التي تُخامر الإنسان المنعتق عندما تبلغه الروزنامة، بما استطاعت من رِفق، أن الذي يتأمّله في المرآة هذا الصباح، دارج نحو الستين.
وحده الفنان يفكّر في الهجرة في هذه السن. كم سوف تشعر ببرد موسكو عندما تدخل المقهى ولا يلتفت رأسٌ واحدٌ نحو كرسيّك. وكم ستشعر بالغربة عندما تعزف “وحدُن” على البيانو وتشعر أن حداً لا يمكن أن يُدرك عَمَّن تعزف. وأما الذين كتبوا إليك أنك كثير على لبنان، فشطحة محبّة زائدة. أنت كثير، بلبنان. سوف تكتشف ذلك أكثر في موسكو عندما يتبيّن لك أنك تعبير عن جيل. جزء من دراميات لبنان في فرحه وفي حزنه. سوف تحنّ إلى الذين ضحكت منهم. وسوف تذكر أنك من بلد لا يليق بالرحابنة، ولا بالسيدة التي أدمعت وهي تغني له “القمر بيضوي عَ الناس… والناس بيتقاتلوا”.
لم يكفّ زياد عن مقارعة “الشعب العنيد”. عاش ممتلئاً به ومفجوعاً به. أفزعه أنه شعب بلا غد: “بالنسبة لبكرا شو”: امرأة تبيع نفسها من أجل طقم كنبايات، وزوج يُقاتل خياله بين الفاقَة والكرامة. يتحرّك لبنانيو زياد مرة في بار ومرة في مصح. و”ابنِك حمار يا ثريا”، علاماته المدرسية تحت الصفر. الميلودراما اللبنانية تتقاطع في حدّة بين الضحك والبكاء. بين الرفض والاستسلام. والهجرة (الدائمة؟) الآن إلى روسيا هي مجرد رسالة حب أخرى ومجرد رسالة عتاب آخر إلى هذا البلد المليء بالعشق والخيبة. بالجمال وأقبح أشكال القبح. بالأحلام التي لا نهاية لها واليأس الذي يطلّ من الجهات الأربع. وما بينها وما بعدها.
المرة الوحيدة التي شاهدتُ فيها زياد عن قُرب كانت من نحو 15 عاماً. كنت جالساً في أحد مقاهي الحمراء الخلفية عندما عبَر الشارع، راسماً على وجهه إمارات الحنَق، تحسّباً لأن يقترب منه مُعجب ويقول شيئاً غبياً مثل “مش حضرتك الإستاذ زياد”؟ إنه الفنان الغريب ويريد أن يصدّ عن نفسه كل شيء، حتى التحيات.
سوف يشتاق إلى ذلك في الساحة الحمراء. عندما يمرّ به مئات الروس ولا يلتفتون، لاعتقادهم أن هذا الغريب وصل للتوّ من فلاديفوستوك ولم يعرف بعد من أي دكان يشتري قبعة الشتاء.