IMLebanon

عن وديع الصافي ولبنان الذي مات

مرت ذكرى رحيل وديع الصافي. لم ننتبه، لأن الوطن كله قد صار ذكرى، أو بين حل وترحال، أو هو قد سبقه إلى رحيل حاضر، أو ترافق معه إلى حضور راحل، لا فرق.

ليس الموضوع وديع الصافي. مع أنه يستحق مواضيع عدة وكلاماً كثيراً وأكثر من وقفة وتحية. المسألة الآن هي ما تحسّه وأنت تتأمل مشهدية الكبير الغائب. تستعيد جيلاً من كبار. تستذكر عمالقة كانوا من رعيله والأتراب. تدرك أنهم كانوا لبنان.

تكتشف أن لبنان كان على صورتهم ومثالهم، أكثر مما أسقط عليهم أي صورة أو مثال. لبس وجوههم، فصار له «وجهٌ». نطق بأصواتهم، فبات له صوت، وكان صوتاً يُسمِع ويُسمَع. حمل هو هوياتهم، في إبداعهم والجماليات، أكثر مما حملوا هم هويته، بطاقة ورقية جامدة.

تتأمل ذكرى رحيل الصافي، فتكر القامات والهامات أمامك. من رحل ومن تدعو له بطول العمر، ولو بعد تقاعد عن خلق واجتراح. عاصي، منصور، فيروز، صباح، زكي ناصيف… فتنشدّ إلى أسماء مبدعين آخرين، من سعيد عقل إلى ميشال طراد ومارون كرم ويونس الابن ولائحة لا تنتهي. تستعرض الأسماء، فتكتشف بصمت، وفي السر، كم أن لبنان قد مات. ليس الكلام ههنا شيئاً من الزجل أو الميلومانيا الممجوجة. بل هو إحساس عميق دفين، فيه الكثير من الحساسيات المحظورة القول والتعبير هذه الأيام. خلف كل اسم من هؤلاء، مع كل سمة من إبداعه، تدرك كم أننا قد أمتنا وطناً، وأمتنا شعباً كاملاً معه، وكم قد سقطنا في الموات الفكري الثقافي، حتى تعلقنا بحبل الآلاف الستة من السنين وادعاء تعددية وكذبة أبجدية وأسطورة صدفة، فيما قيم الوطن قد زالت. ولنستعرضها مع تلك الأسماء، مع الاعتذار الكامل من المعنيين:

عاصي ومنصور، ذاك التوأم المخصّب من كل آلهة الكلمة واللحن، كيف نسجا معاً وطناً افتراضياً حتى صدقناه. كيف جعلانا نرى جبالاً من صوان وأميراً عظيماً وحاكماً شخصانياً وسلطنة نثور عليها وجغرافيا معطلة بكاملها من «الميس» إلى الريم»… وفرحنا بكل ما أعطيانا. كانا واحداً في الإبداع. حتى عجز التأريخ عن تحديد من كتب هذا الحرف ومن وضع تلك النغمة. إلى أن جاء جيلهم الثاني، فاختلف، لا على إبداع مستمر، بل على تركة من رحل. نموذج معبّر جداً عن حال وطن كامل وشعب كامل في لبنان ما بعد الكبار. صرنا مخلوقات في مكان، لا تكتفي بأنها لم تعط غده ما يؤهله ليكون غداً، بل تختلف حول أمسه، حتى تفني كل وقت وزمن، منه إلى يومنا إلى كل مستقبل آت. سلفيون كلنا بهذا المعنى. «داعشيون» كلنا بهذا البعد. بُعد إدارة توحشنا حتى الزوال.

زكي ناصيف، ذلك الرقيق في كل ما هو إنسان. ابن مشغرة والقمر. صاحب الموعد الثابت مع رعيان قريته عند نبع الضيعة. يحمل مدونته الصغيرة وينصت إلى حديهم المخضب بالتراب والسماء. يسجل إيقاعاتهم ويتعلم مما اعتبره أهم مدرسة إيقاعية لفنه. لا يستحي، ولا يخجل ولا يدعي. يفخر أنه ابن تلك العين ومخاضة الرعيان. منها كتب النشيد الأبقى من نشيدنا، «راجع»، وصدقنا، وغنينا، وسكننا الحبور ويوطوبيا شعبنا العظيم وأسطورة الفينيق ونهاية الحرب وأفعال الحلم، من «يتعمر» إلى كل أفعل تفضيل، من «أحلى» إلى أخضر… قبل أن يرحل زكي فقيراً فقيراً، إلا من موقعه في قلوب وذاكرات وتاريخ.

مثلهم صباح، تلك الجوهرة على سفر منطقة. لوّنت شاشة العرب بلون الحداثة والجمال، من القاهرة إلى بيروت. أغدقت علينا فرحنا كما أغدقت ثروتها. لأن الفرح كان صوتها وقيمتها كانت الثروة. حتى سكنت محتاجة إلى رحمة لبنان آخر، لا تعرفه ولا يعرفها. نصري شمس الدين، فخر الدين نفسه، عاد إلى الإقليم جثماناً على سطح سيارة أجرة، يبحث عمن يحمله إلى مثواه. وديع حمل معنى اسمه، وداعة صافية حتى ثمالة آخر ثانية، ونام على صلاة، فيما كانت «جلنار» على الأرجح قد باتت سبية الخليفة الوهابي الجديد، أو ضحية أصوات نجوم الاستهلاك الخليجي الثقافي المستجد والمستدام… لم يمت أي من هؤلاء. نحن من مات. لبنانهم فينا قد قضى. سلم قيمهم وقاموس حضارتهم ومعيار جمالهم عندنا، قد أعدم وانعدم. هم لم يرحلوا. نحن لم نستحق الحضور بعد.

في تأبين عاصي، رسم الرائع جورج خضر، أحد أعلام تلك اللائحة الذهبية، صورة لمسيرة تلميذي الأب يوسف الأشقر، كيف انتقلا بالشعر من البحث عن الله إلى اللقاء فيه. قال أسقف المدينة إن عاصي ومنصور انطلقا من «لا تندهي ما في حدا»، كتعبير عن قلقهما الوجودي، ليبلغا إلى «بيتي أنا بيتك، وما إلى حدا»، كدليل على يقينهما الإيماني. بعد رحيل تلك الهامات، يبدو أننا نمشي المشوار المعاكس. حتى كدنا ننتهي، بمعنى النهاية فعلاً، إلى «الما في حدا».