IMLebanon

لمنْ المستقبل أستاذ هيكل؟

مع أنه، في ذلك التواضع المتعالي الذي يلجأ إليه كبار الصحافيين الأذكياء وهو كبيرهم في الشرق الأوسط، لم يكن يقبل لقباً غير لقب “صحافي”، لستُ متأكِّدا ماذا سيبقى من محمد حسنين هيكل: المؤرخ أم السياسي أم الصحافي؟

ربما ليس وحده في هذه المعضلة ولو كان باستطاعته الآن لاعترض قطعا على توصيفه كمؤرِّخ بطريقته في لفظ الـ”لا لا لا لا لا…” متكررةً مهذبةً وعصبيةً. لكنّ المفارقة الكبرى، كما أراها في تاريخه العام، هي أن إبعاده عن السلطة، الذي كان إقالةً أخذت شكل استقالة، واختلافاً حقيقياً فعلياً في الخيارات الاستراتيجية مع الرئيس أنور السادات، جعلنا نكسبه كمؤرخ ولو خسرناه كصحافي.

كَسْبُ المؤرخ كان أكبر. فلقد بدأ منذ النصف الثاني من السبعينات بوضع سلسلة كتب لم يعد ممكنا فهم الستين عاماً التي انقضت بعد الحرب العالمية الثانية دون العودة إليها بل البدء بقراءة “خريف الغضب” و”القنوات السرية للمفاوضات العربية الإسرائيلية” ووثائق معارك السويس وحربي عام 1967 و1973 والثورة الإيرانية وغيرها العديد من المؤلفات التي كانت ما أن تنفد نسخها حتى تُطبع من جديد، بما فيها بعض ترجماتها خصوصا إلى اللغة الإنكليزية التي كتب بها بعض كتبه.

بدءا من “خريف الغضب” تحوّل أسلوب هيكل إلى مستوى أكثر دقة وبات “عقل” كلماته مشغولا بالقارئ الغربي بعدما كان شاغلاً، واستمر، للقارئ العربي. هو أسلوبٌ كان دائما في غاية الجاذبية. إنه سر السلاسة الذي يحمل من الروح المصرية تدفُّقَ مائها، والتي كان يقع في حبائلها في زمنه السلطوي الناصري وجزئيا الساداتي كلُّ الصحافيين من أصدقائه وأعدائه وتلامذته بسبب جماهيريتها الواسعة.

جعله التحدّي بعد إخراجه من السلطة، يتفرّغ لإعطاء أفضل ما عنده ككاتب فأخذ أسلوبه يتحرّر من اللغة التعبوية نحو تشدد أكثر في المصطلحات وتوثيقٍ متكامل عوّض إبعادَه عن ” البلاط” المصري. فنجح في الاحتفاظ بل في تجديد بل في خلق مكانة جعلت أيَّ سرايا عربية تتمنى لقاءه فكيف بمصادقته… لزمن طويل. ورغم فيضان مقالاته، و كَرَمِ كتبه، نجح في أن يعطي الانطباع دائما أنه يكتب أقل مما يعرف!

كان يهوى فخامةَ الأشياء: الملبس، السيكار، الفنادق المميزة، ولكن كلورد إنكليزي وليس كَثَرِيٍّ حديثِ نعمةٍ أميركيٍّ وهو الذي جاء من الطبقة الوسطى المصرية المتعلِّمة. “لورد” بلكنة وجِلْدٍ واعتزازٍ… مصريّة. وكان يحب أن ينشر أسرار رجال الدولة بما فيها، كما كتب مرارا، علاقاتُه مع أسماء مهمة وليست معروفة أو في الواجهة من مدراء المخابرات، أميركيين أو فرنسيين أو سعوديين وغيرهم. ويُقال إن لديه مذكرات مديري المخابرات السعودية سابقاً كمال أدهم غير المنشورة إلى اليوم.

خلال رئاسته تحرير ” الأهرام” التي لا تزال الآن في المبنى العملاق الذي أقامه في الستينات خصّ للمرة الأولى بعض أكبر رموزِ الثقافة المصرية الكبار بمكتب لكلٍّ منهم في طابق خاص من الصحيفة التي إلى الآن تضم ألوف المحررين والإداريين. ومن ضمن هذه الرموز الدكتور بطرس بطرس غالي القامة المصرية الدولية الكبيرة التي فارقت الحياة قبل هيكل بساعات . وبطرس غالي شغل في مؤسّسة “الأهرام” آنذاك موقع رئيس تحرير مجلة “السياسة الدوليّة” المرموقة.

بقي هيكل حتى السنوات بل ربما الأيام الأخيرة من حياته يعتز بالمقابلة التي أجراها مع العالم ألبرت آينشتاين. ومع أن “الأهرام” لا تزال الصحيفة الأبرز في مصر بل وجه مصر الخارجي إلا أن زمنه كان مختلفا وأصبح الآن “أسطوريا” مثلما يحوِّل الزمن نوستالجية كل جيل إلى “أسطورة”.

قيل عن تجربته في “الأهرام” إنه “ألغى” الصحافة المصرية لكي ينفرد بحجم خاص لـ”الأهرام” الموروثة كما هو معروف عن مؤسسيها ” الشوام” اللبنانيين آل تقلا والمؤممة لاحقاً. بقيت صحف مهمة في مصر طبعا في أيامه في الخمسينات والستينات لكن لا شك أن إلغاء التعددية السياسية كان المسؤول عنه الرئيس عبد الناصر والنظام القوي الذي جعل الدولة الديكتاتورية أداة تغيير ثوري، اجتماعي داخلي وسياسي خارجي في إفريقيا والعالم العربي.

حكمت نظرتَه معادلاتٌ ثابتة في رؤية مصر، بعضها لم يتغيّر.

أحب لبنان طبعاً، وصحافته في المقدمة، ولكنه لم يتخلَّ عن رأيه الذي أثار لبنانيين عديدين وهو أن “لبنان وظيفة” بما يعني أنه ينتهي أو ينهار إذا انهارت الوظيفة أو تغيّرت. وأنا لا أجد ضيرا في هذا الرأي المتصل مضمونه بالنظام الدولي لأن الوظيفة يمكن أن تترسخ وتستمر إذا أحسن أهلُها سلوكَهم السياسي. وهي الآن تعيش، رغم القلق العميق، مرحلة “سويسرا الحروب” في المنطقة بعدما انهارت وظيفة لبنان كـ”سويسرا السلام”. عدا أن هيكل لم يكن ليخطر في خياله انهيار مجموعة دول ومجتمعات عربية دفعة واحدة مع احتمالات مفتوحة.

لم “يهضم” هيكل الدورَ التركي. وكانت لي مرة، في حوار طويل معه في منزله في “الجيزة” عام 1997 تجربة نقاش صعب حول تركيا بعدما قلتُ له إن علاقة الإسلام بالحداثة تنجح أو تفشل في تركيا أولاً وليس في أي مكان آخر. كان يعتبر التركيز على إبران مهمةً استراتيجية لمصر وهو جاء من تجربة ناصرية تناقضت طويلاً مع إيران بعد التقارب المصري الإيراني في عهد الملك فاروق. وعلى الأرجح لعب دوراً في فتح أبواب القاهرة في الستينات أمام معارضة الشاه.

كانت التجربة البريطانية في الصراع الدولي، كما في الصحافة، تحتل مكانة كبيرة في ثقافته مع أنه من أوائل من وعوا انحطاط الدور البريطاني الذي كان لعبد الناصر دور كبير في حصوله.

طبعا شغلت الولاياتُ المتحدةُ ( والعداء لإسرائيل) حياتَه السياسية كلها وهو الذي نقل في أحد كتبه وثيقة من اجتماع لمجلس الأمن القومي الأميركي برئاسة الرئيس أيزنهاور عام 1957 عندما سأل أيزنهاور مساعديه: لمن هو المستقبل في العالم العربي؟ فقيل له: للقومية العربية. فأشار فوراً بيده: إذن ادعموا الكولونيل ناصر.

السؤال الآن الذي كنت سأطرحه على هيكل اليوم: عمن سيجيبون في مجلس الأمن القومي الأميركي لو سألهم الرئيس باراك أوباما: لمن المستقبل في المنطقة؟

كان مهموما جدا بالمستقبل، شأنه شأن جميع الأذكياء، حتى عندما كان يرى المستقبل يتخطّاه.

لم يكن محمد حسنين هيكل يمنحنا متعة القراءة بل وبالتوازي أيضا يمنحنا الفائدة السياسية أكنا متفقين أم مختلفين معه. وهذا فعلاً ديْنٌ علينا أستاذ هيكل.