يومياً، تعلن عشرات المؤسسات والشركات عن عمليات صرف جماعي في ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية وارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة. يترافق ذلك مع غلاء فاحش وصلت نسبته في أحيان كثيرة الى أكثر من 100 في المئة على بعض السلع. وإذا كان سوء الطالع قد لازم من فقدوا أعمالهم في الشهرين الأخيرين، فإن من لا يزالون في أعمالهم حتى اليوم ليسوا أفضل حظاً بأي حال من الأحوال. إذ إن كثيرين من هؤلاء تعرضوا لاقتطاعات كبيرة في رواتبهم، عدا عن أن القيمة الشرائية للرواتب تراجعت أساساً بنحو 50 في المئة، ولم تعد تكفي ــــ حرفياً ــــ لتأمين أكثر من الخبز. عملياً، عاد اللبنانيون إلى نظام السخرة الذي كان سائداً قبل قرون: العمل في ظروف صعبة مقابل الغذاء… أو، لنكن أكثر تحديداً، مقابل الخبز الحاف!
وفق تقرير أعدّته شركة Fitch Solutions، التابعة لوكالة «فيتش» العالميّة للتصنيف الائتماني يتناول أنماط الاستهلاك والتجزئة في لبنان للأعوام 2019 ــــ 2023، يوجد في لبنان 1,6 مليون أسرة، متوسط عدد أفراد الأسرة الواحدة 4,1 أفراد، وبلغ متوسط الدخل لكل منها العام الماضي حوالى 32540 دولاراً العام الماضي. انطلاقاً من فرضية أن كل أفراد الأسرة يعملون، يكون متوسط دخل الفرد السنوي في لبنان عام 2019 حوالى 678 دولاراً. أما إذا أخذنا نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بحسب صندوق النقد الدولي لعام 2019 (رغم أنه لا يمكن الركون الى هذا المعيار لتحديد دخل الفرد بشكل دقيق)، فقد بلغ نصيب الفرد من الناتج العام المنصرم حوالى 10 آلاف دولار سنوياً، أي 833 دولاراً شهرياً. في هذا الإطار، إذا اخترنا أجراً قدره ألف دولار شهرياً (مليون و500 ألف ليرة) على سبيل المثال كمعيار للقياس، وانطلاقاً من سعر صرف للدولار على أساس 2300 ليرة في السوق الموازية، تكون القيمة الفعلية للأجر قد تراجعت إلى 650 دولاراً (2300 ليرة كسعر وسطي للدولار بعدما بلغ الحد الأدنى لسعر الصرف في السوق الموازية 2140 ليرة والحد الأقصى حدود 2600 ليرة).
ورغم أن هذا المعيار تعوزه الدقة، إذ لا يأخذ في الاعتبار أعداد الشركات التي خفضت أجور موظفيها، كما لا يعتمد الحد الأدنى للأجور كمعيار للقياس (675 ألف ليرة تراجعت قيمتها من 450 دولاراً وفق سعر الصرف الرسمي الى 293 دولاراً وفق سعر السوق الموازي). إلا أنه يعني إجمالاً أن كلفة الذهاب إلى العمل في لبنان باتت أعلى من المردود الذي يمكن أن يجنيه كثيرون من هذا العمل. والكلفة هنا لا تقتصر على البعد المادي فحسب، بل تشتمل أيضاً على المجهود البدني والذهني والنفسي المبذول في العمل كما في زحمات السير الخانقة.
بمعنى آخر، وبعملية حسابية بسيطة، يتبيّن أن عمل اللبناني قد لا يكفيه، حرفياً، ليأكل خبزاً. إذ إن كلفة المواصلات باستخدام وسيلة نقل خاصة، تضاف إليها تعرفة موقف يومي لن تقل عن 300 ألف ليرة شهرياً (10 آلاف بنزين يومياً و5 آلاف تعرفة موقف لمدة 22 يوم عمل فعلي، علماً بأن التعرفة في كثير من مناطق بيروت تصل إلى 8 آلاف ليرة). ومع افتراض أن الموظف يسكن في منزل مستأجر في إحدى ضواحي بيروت بكلفة تبلغ 500 دولار شهرياً لشقة صغيرة مساحتها 100 متر مربع (بحسب شركة «رامكو» العقارية، فإن إيجار متر الأرض في منطقة غير رئيسية خارج العاصمة لشقة مؤلفة من غرفتين أو ثلاث تراوحت بين 50 و75 دولاراً للمتر سنوياً عام 2018). باحتساب الـ 500 دولار، وفق سعر سوق الصرف الموازي (2300 ليرة)، فإن ذلك يعني أن راتباً قدره مليون و500 ألف ليرة سيُنفق بالكامل على السكن والمواصلات، ولن يتبقّى منه سوى 50 ألف ليرة تكفي لشراء ربطة خبز واحدة يومياً (45 ألف ليرة شهرياً)!
مليون و500 ألف ليرة راتباً شهرياً تكفي فقط لتأمين السكن والنقل وربطة خبز يومياً!
قد تبدو الصورة قاتمة للغاية، إلا أن الواقع أنها أكثر رعباً. فهذا المثال لا يشمل من يتقاضون أقل من مليون و500 ألف ليرة شهرياً، ولا يأخذ في الحسبان كلفة النفقات الطبية والاستشفائية والتعليمية والحياتية الأخرى، إضافة إلى الديون المتراكمة على كثير من الأسر. إذ إن اللبناني، منذ سنوات، يعيش تفاوتاً كبيراً بين مداخيله ونفقاته، ما فرض على الغالبية الكاسحة من الأسر العيش في ظل مديونية كبيرة، كانت المصارف أبرز المستفيدين منها عبر التشجيع على الاقتراض.
وكان موقع Numbeo الذي يعدّ أكبر قاعدة بيانات متخصصة في رصد ظروف المعيشة في أغلب مدن العالم، قد قدّر – مطلع العام الماضي وقبل الانهيار الحالي – كلفة المعيشة في بيروت لأسرة من 4 أفراد تعيش بالحد الأدنى، بنحو 2775.77 دولار شهرياً، من دون احتساب إيجار المسكن وكلفة التعليم والرعاية الصحية.
من ملف : تأليف الحكومة: بقيت عقدة فرنجية؟