في الساحة القريبة، «تجنيد إجباري». في الساحة اللبنانيّة «حوار إجباري»، والجامع المشترَك بينهما أحكام الضرورة. الضرورات الأمنية تبيح الأوّل، فيما الضرورات التوافقيّة تفرض الثاني، لكن لا الأوّل أنتجَ حسماً عسكريّاً، ولا الثاني أنتجَ حسماً توافقيّاً لانتخاب رئيس للجمهوريّة، وإطلاق إشارة قويّة لبَدء مرحلة إعادة بناء الدولة.
الحوار لم يُنتِج توافقاً لانتخاب رئيس، ولم يُطلِق إشارةً لبَدء مرحلة إعادة بناء الدولة يرى بعض الدبلوماسييّن أنّ القمّة الروحيّة بدأت تستقطب آذاناً صاغية، وبدَت طروحاتها في الآونة الأخيرة أشبَه بمحاولةٍ لاستنهاض تيار عريض ما زال يؤمِن بالثوابت الوطنيّة والميثاقيّة التي قام عليها لبنان.
وقد تنبَّهَت الفعاليات المتوغّلة في الاصطفافات والكيديات، وتلاقَت على دعم الحوار، والإصرار عليه، للحفاظ على ما تبقّى من «شعبيّة»، ومصفّقين؟!.
ينظر هذا البعض إلى المشهد الداخلي، فيؤكّد على ثوابت ومتغيّرات، يَعتبر الجيش من الثوابت. ممنوع إضعافه، وممنوع هزيمته، هناك مهامّ وطنية بانتظاره، عليه أن يواجهَها وينتصر. ويَندرج القطاع المصرفي في خانة الثوابت أيضاً، ومِن غير المسموح التلاعب بمرتكزاته حِرصاً على الاستقرار المالي، والاقتصادي، المعيشي.
بالمقابل خسرَت الفعاليات بغالبيتها بريقَها، لم تعُد مصنّفةً في خانة الثوابت، خسرَت موقعَها، عرّى الفسادُ معظمَها، شَوَّه الخطاب الكيدي صورتَها، نال النفخ المستمر في البوق المذهبي والطائفي مِن صدقيتِها، لجأت إلى الحوار مرغمةً لإنقاذ ما تبقّى مِن ماء وجه، ومِن رصيد. همُّها استمرار النجوميّة، واستقطاب الشعبيّة، بعد أن شعرَت بحجم الهزّات الارتدادية التي يولّدها المَلل، والقرَف، والإحباط في صفوف المواطنين.
وتبدو الإنجازات متواضعة. كأن تخرج الحكومة مثلاً، من جلسات مجلس الوزراء، بشيء من الرضوض، وأقلّ قدرٍ من اللكمات، فهذا إنجاز. أن تستمرّ الأجندة البرلمانية في تحديد مواعيد جلسات انتخاب رئيس للجمهورية، من دون نصاب، ولا انتخاب، فهذا إنجاز أيضاً.
أن يستمرّ المواطن مأخوذاً بملهاة الأمن الصحّي، والغذائي، طِبقاً للمواصفات، فهذا إنجازٌ لا يعوّض. وما بين الثوابت والمتغيّرات يتبدّل وطن، ويتغيّر على وقع تحدّيات ثلاثة ضاغطة، الأوّل: التغيير الديموغرافي. أكثر مِن مليون ونصف المليون نازح سوري، والأبواب مشرّعة على المزيد.
نصف مليون لاجئ فلسطيني. أكثر من 45 بالمئة من غير اللبنانيين يسرَحون ويمرحون كما يطيب لهم؟. مَن يتصدّى لهذه الظاهرة بمسؤوليّة وطنيّة، وما العلاج؟…
لاجواب، وأقصى الطموح طروحات ممسوخة، وخطط معقربة تُطرَح على هذا المؤتمر أو ذاك، للحصول على «الدعم المالي»، وكأنّ المطلوب التعايش مع واقع الحال، وتكريسه بتوطين مقنّع مدجَّج بنزوات فئوية وطائفيّة ومذهبيّة. أين هي الخطط الرؤيويّة؟. أين هي السياسة المسؤولة لحملِ المَرجعيات الأقليميّة والدولية على اقتسام هذا العبء، ورفع أثقاله عن كاهل اللبنانيين؟!.. لا جواب؟!…
الثاني: إنّه التحدّي الوجودي. يذهب السلاح إلى سوريا والعراق، وربّما ساحات أخرى، جارَّاً وراءَه، عنوةً، كلَّ لبنان وكلّ اللبنانيين عن بِكرة أبيهم، لتنفيذ مهامّ غامضة، مجهولة، ولا مَن يسأل، أو يحاسب؟.
وإن سألَ فما مِن جواب، وإذا كان هناك مِن جواب فهو لمضاعفة التحدّي، ورفع منسوب الاحتقان المذهبي؟!. ثمّ ماذا لو أنّ التطوّرات المتسارعة قد ساعدت على تنفيذ الأهداف المرسومة، وتحقيق الغايات والأماني، هل يعود هذا السلاح إلى الاستكانة في حمى الدولة، وتحت سقفِها، أم سيذهب إلى فلسطين لتحريرها، ورمي إسرائيل في البحر؟!.
التحَدّي الثالث مؤشّراته كثيرة، يَخرج وزير من مجلس الوزراء ليعلنَ على الملأ بأنّ الرئيس تمّام سلام قد عبَّر في قمّة شرَم الشيخ عن رأي نصف لبنان، فيما النصف الآخر له رأي مختلف؟!.
إنّه الواقع المفخّخ والمستأخر تفجيرُه، لأنّ مَن يمسك بزمام الأمور لا يريده أن ينفجر، أو لا يريده أن ينفجر اليوم، وفي هذا الظرف الإقليمي – الدولي الضاغط. ولكن، وبكلّ بساطة وصراحة، إنّ لبنان مفخّخ، والمسألة أبعد من رئاسة، ومِن إستحقاق.
إنّ عوامل التفجير متوافرة، مستنفَرة، شَغّالة، وفي حضرةِ «الحوار الإجباري» هناك كلامٌ عن لبنانَين، ومشروعَين، في ظلّ «تَنبَلةٍ» داخليّةٍ متمادية، وخطابٍ مذهبيّ، طائفيّ، موتور، منفعِل. ماذا باستطاعة قمّة بكركي أن تفعل، وهناك فعاليّات همُّها تغليبُ مصالحها الخاصة على المصلحة العامّة، وتتحمَّس لمشاريع خارجيّة، أكثر ممّا تتحمّس لمصلحة لبنان؟.
كيف لقِمَّة بكركي أن تقفَ في وجه التغيير الديموغرافي، والميثاقي؟. كيف لها أن تعيدَ «اللبنانيين» إلى لبنان الواحد السيّد، الحر، المستقل، في كنَف دولة قويّة قادرة وعادلة؟!… خلّيها على الله؟!…