Site icon IMLebanon

“القوات” طبّقت الفيديرالية عملياً في الحرب الجنرال يطرح الفكرة بعد ربع قرن!

يجب أن يكون المرء مصاباً بالزهايمر السياسي كي لا يتوقف عند تصريح النائب الجنرال ميشال عون “إن “القوات” لربما كانوا محقين حين طرحوا الفيديرالية في زمن الحرب”. لم تطرح “القوات” الفيديرالية كفكرة بل حققتها على أرض الواقع تلك الأيام فوق البقعة التي بقيت خارج سيطرة الجيش السوري والميليشيات المتعاونة معه، والممتدة لمن يذكر من كفرشيما إلى المدفون. كانت استراتيجية الدكتور سمير جعجع تختصر بأن يوماً ما سيأتي تفرض فيه الظروف الدولية والإقليمية على جميع الأطراف حلاً للانقسام العمودي الذي يشل الدولة المركزية. فلنستغل الوقت الضائع في بناء وضع متين للمسيحيين في المناطق التي يشكلون فيها غالبية، أو “المناطق الحرة” قال، بتعبير ذلك الزمن. متى جاء وقت التفاوض على السلام وشروطه يفاوض الفريق المسيحي من موقع المرتاح إلى وضعه ويكرّس على الأقل نوعاً من نظام لا مركزي. نظام يتيح لغالبية كل مجموعة دينية أن تحكم نفسها بنفسها تحت خيمة الدولة الجامعة.

عمل الدكتور سمير جعجع ليلاً نهاراً وبقدرة تنظيمية يُشهد لها على إنجاح المشروع هذا وتثبيته. دعنا من الشق العسكري الذي ثبته بإنشاء جيش حقيقي بكل معنى الكلمة، أركان ومدرسة ضباط ونظام عسكري وفرق اختصاص من كل الأنواع وحتى درّب طيّارين من “القوات”، ولم يكن ينقص إلا وصول الطائرات عندما اندلعت المواجهات العسكرية والعبثية بينها وبين الوحدات التي كانت موالية للجنرال عون في الجيش.

ثمة ناحية أخرى استغرقت جهداً هائلاً من جعجع، المنظر الأكبر للفيديرالية في تلك الحقبة ومن خلال إطلالات تلفزيونية متلاحقة عبر تلفزيون “القوات” (“المؤسسة اللبنانية للإرسال”)، هي الشأن الإجتماعي – الإقتصادي. ففي موازاة سياسة تهدئة وتبريد للجبهات مع الجيش السوري وحلفائه بين 1986 و1989، سمحت بحد معقول من الإستقرار وضبط للأمن ما أمكن في الداخل، أطلقت “القوات” مشروعاً للنقل العام غطى معظم مناطق سيطرتها ساحلاً وجرداً . في مجلس خاص سيقول جعجع مازحاً ولكن بمرارة: “كان الناس يتمشون على الأرصفة ويشتموننا، فسيّرنا لهم بوسطات صعدوا إليها وصاروا يشتموننا منها”.

لإنجاح المشروع الفيديرالي أو اللامركزي وزّع قائد ميليشيا “القوات” آنذاك مصروف موازنتها مناصفة تقريباً بين العسكر والشؤون الإجتماعية، موازنة كانت تؤمن مصادرها من رسوم وضرائب متنوعة وهبات ومساعدات من متمولين في الداخل والخارج ومداخيل أخرى. وأنشأت “القوات” مشاريع سكنية عدة كان مخططاً لها أن تتوسع كثيراً، ومن خلال “مؤسسة التضامن الإجتماعي” وفرت تغطية عمليات القلب المفتوح وتغطية طبية وأدوية للمصابين بأمراض مزمنة وتوأمة مع مغتربين ومؤسسات في الخارج لنحو 2000 عائلة تتلقى كل منها شهرياً ما بين 300 و600 دولار بما يقيها العوز، فضلاً عن تقديم مساهمة في أثمان الكتب لعشرات آلاف التلامذة.

ليس نكء جراح في زمن “ورقة النوايا” التذكير بأن الصراع الدموي كان بين مشروعين سياسيين حددهما الجنرال ميشال عون مسبقاً وبوضوح عندما رفع في مؤتمر صحافي صاخب قبل ربع قرن بالضبط شعاره الشهير: “الدولة أو الدويلة”. كانت مفاجأة كبيرة لجعجع أن نسبة كبيرة من المسيحيين تجاوبوا مع توجه الجنرال عون إلى ضرب “القوات” ومشروعها، رغم أن الجنرال كان في مؤتمر سابق رفع فوق رأسه كتاباً أبيض يتضمن مبادئها (“نحن والقضية”) قائلاً إنه شارك في وضعه ويؤمن تماماً بمضمونه.

سال دمٌ كثير وخربت بيوت لا عدّ لها ودمرت بلدات وقرى وهاجر مئات الآلاف من لبنان عندما تضارب المشروعان. كان جعجع ينظر إلى ميليشيا “القوات” على أنها أداة لحماية مشروع الفيديرالية، وعندما عمّ الخراب والموت قرّر أن لبنان أهمّ من “القوات” فضحّى بالميليشيا في اتفاق الطائف الذي لم يكن ليقبل بكل البنود التي وردت فيه كما وردت لولا ميزان قوى مائل بحدة بفعل حربي “التحرير” و”الإلغاء”. كانت مرحلة محاولة الحد من خسائر المسيحيين ما أمكن. حاول تحسين التطبيق السيئ لاتفاق الطائف بعدما بات في عهدة حافظ الأسد. وجد نفسه أمام حائط مسدود ففضل إنقاذ روح “القوات” والذهاب إلى السجن وبقي فيه 11 سنة وثلاثة أشهر. عندما خرج كان الجنرال عون قد سبقه في العودة من باريس. وبعد عشر سنوات ها هو يصرّح أن “القوات” لربما كانوا محقين حين طرحوا الفيديرالية!