لم تعد أنباء الحوار المديد الدائر بين حزب “القوات اللبنانية” و”التيار العوني” تلقى اهتماماً وصدى إيجابياً، لا عند السياسيين ولا رجال الإقتصاد والأعمال ولا خصوصاً عند عامة الناس. طال كثيراً هذا الحوار ولم يلامس بعد المسألة الرئيسية أي رئاسة الجمهورية التي تبين أن مؤسسات الدولة يستحيل أن تستقيم وتعمل في شكل طبيعي في معزل عنها بفعل تعقيدات دستورية وسياسية جمة.
لعل العامل الضاغط الأبرز في فقدان الإهتمام بما يجري بين معراب والرابية هو أن التقدم الذي تحقق يسير بسرعة السلحفاة أما التدهور الإقتصادي في البلاد فيتسارع بخطى كارثية وتدفع الثمن فئات شعبية تتوسع يومياً ولا من يسأل ويهتم. صحيح أنه لا يمكن إنكار إيجابيات للحوار المذكور، منها تبريد خطابات بين “القوات” و”التيار” وتهدئة نفوس سريعة الإنفعال، لكن البيئة المسيحية لم تكن في حال احتقان وتجييش قبل هذا الحوار على غرار بيئات أخرى. وما تحقق عملياً حتى اليوم محزن لأنه يقتصر على اتفاق لإسقاط الدعاوى القضائية القائمة بين الجانبين. دعاوى جلها أمام محكمة المطبوعات بعد محادثات ولقاءات معلنة وغير معلنة و”هيصة إعلامية” عكست آمالاً كبيرة عند انطلاقة الحوار في توصل الزعامتين المسيحيتين الكبريين إلى توافق يؤدي إلى المطلوب أساساً: انتخاب رئيس للبنان.
خمسة أشهر مضت للتوصل إلى”إعلان نوايا”؟ لو كانت هذه جيدة فعلاً لما كان استلزم إعلان هذا الإعلان أكثر من ساعتين فقط، بوجود العدد الكبير من المحامين والسياسيين المحنّكين في “القوات” و”التيار”. وسيظل يُقال من الضفتين إن البحث في التفاصيل الدقيقة لقانون الإنتخابات النيابية وقانون اللامركزية الإدارية على سبيل المثال يعوزها وقت. بالقياس على المدة التي استغرقها الاتفاق على إسقاط الدعاوى قد تمر سنون قبل أن يتم الاتفاق الناجز على رؤية مثالية متطابقة بين الجانبين لما يجب أن تكون عليه دولة لبنان. ونلتقي في الثلاثينيات من القرن الحادي والعشرين.
هكذا بمضي الوقت يزداد اقتناع غير المحازبين من الجانبين بأن كلا الرجلين قرّر ملء الفراغ بالفراغ الذي يناسبه. النائب الجنرال ميشال عون أراد إسقاط ذريعة من يد “تيار المستقبل” الذي كان يدعوه إلى الانفتاح على الحلفاء المسيحيين في قوى 14 آذار، ويبلغه بأنه لا يمانع في انتخابه رئيساً توافقياً إذا وافق الحلفاء. الدكتور سمير جعجع لم يقل “نعم” ولم يقل “لا”. لن يقول “اللا” علناً على الأقل. وبالتأكيد ليس قبل أن يضمن حصة له في الرئيس المقبل. في الإنتظار صار الحوار مع “القوات” ذريعة في يد عون لعدم التجاوب مع أي دعوة توجه إليه، من بكركي أو سواها، إلى التصرف بما يمليه الواجب الوطني الأسمى من خلال إنهاء الفراغ الرئاسي بأي وسيلة ديموقراطية يراها. لم تصح حسابات الجنرال الساعي للعودة إلى قصر رئاسي خرج منه مأسوياً بخطأ حسابات. في آخر معاركه السياسية الكبيرة ارتكب خطأ آخر بالرهان على حسم سريع في سوريا، خلال أيام فقط على يد جيش النظام وقوات “حزب الله”، أتبعه برهان استراتيجي كبير على وقوع المنطقة في قبضة إيران، وشاركه حليفه “حزب الله” بحماسة حملته مراراً على التكرار على ألسنة قادته وفي إعلامه المباشر والحليف: “لا تريدون عون رئيساً اليوم؟ حسناً ستهرعون إلى انتخابه لاحقا”. كل ذلك سقط مع اندلاع “عاصفة الحزم” في اليمن. من سخريات القدر أن يصير الحوار مع خصمه سمير جعجع الملجأ الأخير لعون للاستمرار في رفض التحدث مع من يدعونه إلى قراءة الواقع وتغليب مصلحة الوطن، الناس أقله.
أما “القوات” فلا يخفى أنها جنت وتجني مكاسب من عملية “الحوار للحوار”. يكفي أن تكون آمال العونيين الأخيرة في رئاسة الجمهورية معلقة على كلمة من جعجع كي يكون الرجل سجل فوزاً مدوياً على خصمه اللدود. أخذت “القوات” اعترافاً ثميناً ممن كانوا أشد رافضيها والمتحاملين عليها في بيئتها بأنها القوة الثانية أو المقابلة. لا شك أن “حكيم القوات” ينتابه ارتياح شديد وهو يراجع استطلاعات للرأي يحرص على تجديدها كل فترة والمقارنة بين مقبولية حزبه التي تتقدم عند المسيحيين بحسب تلك الإستطلاعات ووضعية محاوريه العونيين. يرتاح أكثر إلى أن المسألة باتت محصورة بينه وبين الجنرال عون. لن يفوّت فرصة كهذه لفرض نفسه الأقوى في السياسة، أو في الرئاسة لمَ لا؟ يكسب جعجع بسياسة المختار هذه. الوطن يستطيع أن ينتظر.